lundi 3 mai 2010

المشي على الجمر**رواية لم تصدر بعد**


المشي على الجمر

بسم الله الرحمان الرحيم

1 رمضان 1429هـ/1سبتمبر2008

أنا الآن موجود على حافة بئر بحقل على مشارف واد يقع بشمال قريتي الساحلية الصغيرة الهادئة ، سيدي بوعلي ، من ولاية سوسة ، ...تحيط بي أشجار الزيتون من كل مكان .. الطقس جميل و ممتع .. و لا ينقصني إلا ابنتي شيماء ابنة العشر سنوات التي تعيش مع أمها ، السيدة آمال بمدينة بنزرت ..؟! و ابني نصير الله ابن الثمانية أشهر... ؟! و الذي اضطررت لتركه مع أمه بمنزل بورقيبة ، السيدة بية ، المقيمة بمنزل أختها السيدة نجاة و المقيمة بدورها بفرنسا. ؟!
لا أعرف السر في زواجي للمرة الثانية من ولاية بنزرت ؟!
ابتدأت قصتي مع مدينة بنزرت لما نقلت من مدينة شربان من ولاية المهدية للعمل بخطة مدير دار ثقافة هناك . ؟!
عرفت زوجتي الأولى السيدة آمال صدفة في شهر جوان من سنة 1993 لما كانت تمر بالقرب من دار الثقافة الشيخ إدريس ... كانت السيدة آمال تكبرني بحوالي العشر سنوات !! ... صارت تلازمني كظلها منذ أن تعارفنا .. صارحتني بعمرها منذ البداية .. أبدت لي كثيرا من المحبة و التقدير و الإحترام و الحنان !!.... حذرتني من بنات مدينتها ؟! قالت لي إنهن لعوبات ... و خطرات!! ... تلقائيتها جذبتني إليها رغم بدانتها ؟!... قالت إنها يتيمة الأم منذ صغرها ، و أنها تعتبر نفسها في عداد الأموات منذ فقدها لأمها، و لذلك كانت كلما غضبت صبت جام غضبها في الأكل ؟! ... حتى صارت بهذا الشكل ؟! قلت لها لا يهمني الشكل و العمر كثيرا مادام بين جنبيها قلب طيب و حنون ...!?

استيقظ محمد قبل أن يتبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود على غير عادته !!.. تململ عن يمين و شمال .. ثم شخص من النافذة و جعل ينقل طرفه الشارد فيما يحيط به و حاول أن يعود إلى النوم ، لكن دون جدوى ..تساءل بينه و بين نفسه : ما الذي أيقظني مع هذه الساعة المبكرة ؟ثم تذكر فجأة : آه نسيت أن أحفظ الآيات التي كلفني بحفظها المؤدب لهذا اليوم ... يا إلهي ما الذي أصابني ؟ هل هرمت ذاكرتي بعد ؟!
و طفق يحدث نفسه و يقول : " لا يا محمد .. إن حافظتك قوية و إلا لما فزت بثقة المؤدب .. ؟! لكن لعن الله الإرهاق ... لقد قمت بعمل عظيم بالأمس ؟!. أنسيت أنك بقيت تجمع الزيتون مع أمك كامل اليوم؟! .. ثم نقلت المحصول إلى المعصرة " ؟!
و عاد الهدوء إلى نفسه و سرى الإرتياح في كامل بدنه .. فاستعاذ من الشيطان الرجيم ، واستجمع قوته لينهض من فراشه الدافئ . ملأ الإبريق ماء ليتوضأ للصلاة و هم بتشمير ساعديه ، إذ سمع طرقا خفيفا على الباب . فتساءل : " من يكون الطارق يا ترى ؟" و لم ينتظر انتظاره حتى سمع صوتا جهوريا يدعوه قائلا : "هيا يا محمد .. ألم تتهيأ بعد لنذهب إلى المسجد ؟! فرد محمد قائلا : "أهلا .. رضا.. هل حان وقت الصلاة بعد ؟!.
فرد رضا بصوت فيه كثيرا من التعجب :" يظهر أنك نسيت .. ، لا بأس .. سنذهب قبل صلاة الفجر .. لنحفظ معا الآيات التي كلفنا بحفظها المؤدب بالأمس .. ؟!
فقال محمد معتذرا :
- "العفو يا رضا .. بعض الدقائق .. لأخرج معك .."

الليل لا يزال يلف بكلاكله أرجاء القرية الساحلية .. صمت رهيب يخيم على الشوارع و الأنهج الضيقة .. يخترقه من حين لآخر عواء الكلاب و صياح الديكة .. و نقيق الضفادع .. خرج محمد ملتفا في سترته .. و أخذ يسير جنبا إلى جنب مع رضا ... و أخذا الطيفان يهرولان حتى بلغا المسجد .. سلما الإثنان على العم وناس المكلف بتنظيف المسجد .. ثم نزعا أحذيتهما و دخلا و لم يفترقا إلا عند بداية بزوغ الشمس .


كنت أمر بظروف صعبة للغاية ؟! ... : مهنية و أسرية...إذ نقلت من إدارة دار الثقافة بشربان إلى دار الثقافة ببنزرت ؟! أين صرت عمليا بلا عمل . ؟!
كانت النقلة تخفي تهديدا بطردي من العمل ؟! لأنه قد بلغ إلى مسامع المشرفين على حظوظ إدارة التنشيط الثقافي بوزارة الثقافة : أني كنت " عضوا نشيطا بحزب التحرير الإسلامي عندما كنت أزاول تعليمي بالمعهد العالي للتنشيط الثقافي؟! " هذا ما أبلغ به السيد بوبكر بن فرج مدير إدارة التنشيط الثقافي، السيد منجي بوسنينة وزير الثقافة ؟!
كما كنت أعيش صداما مربكا مع والدتي عيادة ؟! بل و مع جل أفراد أسرتي و خاصة أخوي سمير و فرج ... بسبب توجهاتي الفكرية واختياراتي الدينية ... منذ صغري ، و قد ازدادت حدة هذه الصراعات مع تقدمي في السن و تخرجي ؟!

إن حاجتي للسيدة آمال دفعتني للتعجيل بخطبتها من أبيها السيد عمر القوتالي ، الشرطي المتقاعد ... أقنعت أمي و أختي نرجس بخطبتها فاستجابتا لي في الظاهر... ؟! لكن بعد مغادرتنا لمنزل آل عمر لحقت بنا خطيبتي و أعلمتنا بأن أباها قد غير رأيه بسبب ما ورد من كلام جارح قالته أمي له عندما طلبت يد ابنته ... ؟!

لا أعرف بالضبط ما الذي كان يشدني إلى محمد.. ؟! إبتدأت علاقتنا بتنافس شديد على حفظ القرآن .. كنت أغبطه على العناية التي يوليها له المؤدب دون سائر أقرانه .. أجل كان ما يتمتع به محمد من قدرة عجيبة على الحفظ و النطق السليم .. خليقا بأن يجلب له حب المؤدب و احترام أقرانه و غيرة البعض منهم .. ؟! و ليس من شك في أنه كان يعلم كل ذلك و لكنه لا يبدي تجاهه أي اهتمام .. كان همه منصبا على طلب العلم .. لا غير ، و تحسين زاده المعرفي .. وهو إلى ذلك يعرف حق المعرفة أن الإهتمام بمثل هذه الأشياء مضيعة للوقت و صارفا له عن الهدف الذي رسمه لنفسه .. :
" أن يصبح كاتبا يساعد بني جلدته على تلمس الحقيقة و بلوغ أعلى القمم .. "
إن أراء الناس لا تكاد تسمو عن الخرافات و المعتقدات الساذجة .. ؟! و ليس من شك في أنه رأى بأم عينيه كيف يتقاعس بعض أقرانه في المدرسة عن المذاكرة ثم يذهبون ليلة الإمتحان إلى مقام الولي الصالح بجهتهم ، يتضرعون له كي ينقذهم من الرسوب ؟!. كان ينظر إلى كل هؤلاء بعين التهكم و الإزدراء و الإحتقار و لكنه لا يجاهر بذلك ، إنه يعرف خطأ مسعى هؤلاء و سذاجتهم ، و يدرك ذلك كله جيدا و لكنه فضل الصمت ، إن جل سكان القرية، برجالها و نسائها .. و أطفالها يلجئون إلى مقام الولي في أوقات الشدة يلتمسون مساعدة و يطلبون مخرجا في ذل و مسكنه ، و مهما يكن من أمر فليس الوقت مناسبا للبوح بما يختلج في صدره من إنكار لهذه الحماقات الجماعية ؟!.
و لكن هذا لا يعني أنه لم يسر لأمه بما يراه في شأن استنجاد الناس بالولي الصالح و خنوعهم لصنوف الدهر تصنع بهم ما تشاء ، و قد حذرته أمه مرارا من الإفشاء بمثل هذا الرأي الذي ينضح ردة عن تقاليد أهل القرية و معتقداتهم؟! . و لعل هذا ما جعله برما بكل شيء حوله ، ينظر بعين الإرتياب لكل ما يقع في القرية من طقوس و ما يشاع من أراء ، و لعل برمه هذا هو الذي دفعه إلى مزيد التحصيل و الكرع من العلم أصنافا و قنع بلغة الصمت حتى يحين أوان الكلام .


عادت أمي و أختي إلى قرية سيدي بوعلي بعدما أفسدتا علاقتي بآل عمر ... لكن علاقتي بخطيبتي استمرت بدون علم أبيها مما سبب لها مشاكل معه .... ثم أعلمتني أنها غادرت منزل والدها إلى مدينة الكرم و أنها أقامت مع خالتها هناك... ؟! و قد تبين لي فيما بعد أنها تقبع في منزل عرافة تدعى "سيدة "؟! فبدأ الشك يساورني في سيرة خطيبتي ... رافضا سلوكها هذا مهما كانت المبررات . و هددتها بقطع علاقتي بها ... ثم نفذت تهديدي لها رافضا أي لقاء معها ..... ؟!

خيم الظلام على القرية فأوحى بانطواء يوم آخر من عمر الزمان و وفاة يوم من حياتي و حياة الأحياء ..
أخذت أتفرس بعض الكتب مفكرا بفضاعة تواصل الليل و النهار .. و حاولت التغلب على هذا الشعور بالإرتماء على سريري ، لكنني تصورته نعشا يلتهمني إلتهاما ، انتفضت كالمعتوه !غير أني عدت إلى وعيي بعد أن تيقنت من تفاهة تفكيري...
و أخذت كتابا شدتني فيه العبارة التالية : "الإهداء إلى أبي رحمه الله ". و عاد لي الشعور الغريب ، و تساءلت في نفسي : "كم عاش هذا الأب ؟ و هل صنع في حياته شيئا يذكر ؟ أترك إبنا ليخلد اسمه بهذا الإهداء ؟! " و تذكرت جدي "محمد "رحمه الله ، لقد عاش و مات و ما بقي منه غير بعض الذكريات لا تزال عالقة بذهني .. ؟!
و فجأة رن منبه الساعة كأنه يحذرني و يذكرني بسباقي مع الزمن .. فالعقارب تجري و لا تلتفت إلى النائمين .. و الوقت يمر معلنا قدوم الصباح ..
- " صباح الخير" التفت نحو الصوت و أنا أقول :
- " صباح الخير "!
إنه أحد عمال البلدية شرع في تنظيف الشوارع مبكرا وهي عادة تعود عليها منذ زمن بعيد .. لا شك أنه يشعر بالإرتياح لأنه يعمل لصالح الغير و يريح المواطن من جميع رواسب الأمس .
و قبل أن يغادر المكان قال لي :
- " لماذا أنت هنا ؟؟!
- فقلت له أنا لست هنا.. بل هناك ... هناك..


بعد ثلاثة أشهر من انقطاع علاقتي بخطيبتي ، قدمت آمال إلى دار الثقافة، صحبة امرأة زعمت أنها الصديقة المقربة للمرحومة أمها ؟! فاستأذنت من الإدارة و أخذتهما إلى مطعم مجاور لدار الثقافة، ثم إلى منزلي ... و قد حرصتا على إقناعي بالذهاب معهما إلى منزل هذه السيدة بالكرم ، استعدادا لعقد قراني على خطيبتي بدون علم أبيها ، و قد استطاعت سيدة البجاوي الحصول على شهادة طبية لي من مستشفى حكومي ب 12 يوم حتى يتسنى لي كتابة عقد القران و المكوث فترة هامة للراحة و الإستجمام بمدينة الكرم البحرية ؟! و فاجأتني الإدارة بنقلي للعمل بمثل خطتي بالمندوبية الجهوية للثقافة بسيدي بوزيد بحجة التغيب عن العمل بدون إعلام الإدارة . ؟!؟!


في شهر جانفي من عام 1994 وضعتني المندوبية على ذمة المركب الثقافي أبو بكر القمودي .... ؟! بدا لي مدير المركب الثقافي "السيد الحناشي " رجلا عجوزا جاهلا لأبسط أبجديات التنشيط الثقافي .. ؟!
كان النشاط الوحيد الموجود بالدار ، حضور بعض أفراد فرقة شعبية ، و راقصات أميات .. سعت إحداهن إلى مراودتي عن نفسي منذ تعارفنا ؟!
بدأت بتكوين ناد يعنى بالإبداع الأدبي و الشعر ... لكن المدير سعى منذ البداية إلى عرقلة نشاطي ؟! " فهو ابن "التجمع " و مهمته الأساس ، معاقبتي و تكبيل كل أنشطتي لأن وزارة الثقافة تريد ذلك ؟! كما صرح لي أكثر من مرة .
نشرت في 24 مارس من عام 1994 في الملحق الثقافي من جريدة الحرية مقالا تحت عنوان " أية ثقافة نريد ؟ دعوت فيه إلى عدم احتكار حب الوطن من قبل أي مجموعة أو حزب لأننا كلنا نشترك في عشق تونس مهما باعدت بيننا الأفكار و المسافات ."1(راجع المقال في كتاب : نقد الإستبداد الشرقي عند الكواكبي و أثر التنوير فيه + مشروع بناء حضارة بديلة الصادر عن المطبعة العصرية بتونس 2009 ).


صرت أعيش فراغا مهنيا رهيبا بفعل الحصار المضروب علي من قبل "السيد الحناشي "، أنضاف إليه فراغا عاطفيا .. فقررت في شهر أفريل من عام 1994 البناء بزوجتي آمال التي كنت قد عقدت عليها منذ شهر أكتوبر من عام 1993 رغم شدة الاختلافات بيننا . ؟!؟!


ارتحل عني محمد إلى العاصمة لمواصلة تعلمه الجامعي ، كانت رسائله تصلني تباعا .. وصلتني منه رسالة يقول فيها : أخي و صديقي ، تحية صادقة ، لم أجد من أفشي له بمكنونات نفسي غيرك ، منذ مدة أخذ شعوري بالغربة يزداد شيئا فشيئا ... أسئلة عديدة أخذت تواجهني أينما ذهبت ... من أنا و ماذا أريد ؟! قد تعجب مني و يحق لك أن تعجب ، أجل لقد أمسيت أشك في كل شيء . لقد أصبح يساورني شعور بالقلق و التردد و الحيرة ...".

و تساءلت بيني و بين نفسي :
- " أحين جد الجد أصبحت يا محمد مترددا مضطربا حائرا لا تعرف أي وجهة تسلك ؟!؟!

عرفت محمدا لا يعترف بالعجز أو المستحيل ، يثق في قدراته إلى حد الغرور ، يردد باستمرار .. " يوجد لكل مشكلة حل ، نحن الذين نوهم أنفسنا بالعجز فنعجز ؟!"
كان يشق طريقه بثبات عجيب ، هو الوحيد بين أترابه الذي ارتقى إلى الجامعة دون رسوب . كل من في القرية كان يشهد له بالتفوق و الذكاء .
" أسباب التخلف".. " الشرق و الغرب".. " حركة الإصلاح و الحضارة الغربية "، " طريق النهضة ".. قضايا شغلت ذهن محمد منذ كان تلميذا يافعا ، كان قولي له :
- "عش كما يعيش سائر الناس "خليقا بأن يستفزه و يغضبه، فأبتسم له و أواسيه قائلا :
- "إن اهتمامك بهذه القضايا لن يجديك نفعا ... خالط الناس و ستقتنع أن شعبنا لم يبلغ سن الرشد بعد ، إنك كمن يريد إحياء الموتى أو الحرث في البحر .." ؟!.
فيرد علي بلهجة لا تخلو من عتاب و تأنيب : " الحمد لله أن لم يكن كل الناس مثلك و إلا لحقت بنا الطامة الكبرى!" كنت أغبطه على صبره و قوة شكيمته ، كلما حاولنا صرفه عن هذا الطريق الوعر ازداد إصرارا و عنادا .. ؟! و يهز محمد رأسه حيرة بعد إطراق و يقول بلهجة جدية :
- "إن شعبنا شعب عظيم، و لكننا فرطنا فيه و تركناه يسير على غير هدى.
كنا نعجب من سرعة بديهته واطلاعه الواسع على التاريخ و إلمامه بمجريات الأحداث في العالم . كانت له قدرة عجيبة على تغيير مجرى أحاديثنا ، يزرع الأمل أين ذهب ، بل يحول اليأس إلى أمل .. و يردد دوما : ‹‹ إن مصاعب الحياة و مشاقها تصنع الرجال ›› مؤكدا : ‹‹ أن اليأس يعني الموت وليس أمام القانطين إلا الموت ، يجب أن نأمل لأن الأمل يعني الحياة ... ››! أسمعنا يوما قصيدة يقول فيها مخاطبا فلسطين ،
: ‹‹ فـــلسطــــــــــــــــــين
أنت جرح ينزف من جسدي..!
أنت قطعة من كبدي ..!
فلسطين الوفاء
يا أرض العروبة و السلام..
ابعثي لكل بطل مقدام ،
بفرح الأطفال و الأحلام ..!
قولي له : ‹‹القدس عروبتنا
و ديننا الإسلام .. ! ››
قولي له : ‹‹ أغنية خضراء
بدون كلام .. !››.


ابتدأت علاقتي بالكتابة منذ كان عمري 16 سنة .. كنت أحبر المقالات و الأشعار و القصص القصيرة ... و أقرأها على بعض زملاء الدراسة ... و كثيرا ما كنت أشارك في المسابقات الدينية و المدرسية بولاية سوسة... أو أبلغ محتواها إلى التلاميذ و الأساتذة بالفصل ... كما كنت أحظى بأحسن الأعداد في طرق موضوعات الإنشاء في اللغة العربية و التربية الإسلامية و التربية المدنية و التاريخ و الجغرافيا و الفلسفة ... و لا أزال أذكر أن موضوعي في امتحان "السيزيام " قد تفوق على كل المواضيع بالمدرسة الإبتدائية ابن خلدون .. مما جلب لي الإحترام و التقدير من قبل كل المعلمين و الأساتذة الأجلاء الذين درسوني . و قد تجرأ أستاذي "حافظ " في مادة التربية الإسلامية على منحي 20/20 في موضوع يعنى بالبرهنة على وجود الله و ادخر لي 2 ليضيفها لي في مناسبة قادمة .. للتدليل على إعجابه بما أكتب . ؟!

كنت فصيحا و لا أزال باللغة العربية، إذ تمكنت من حفظ القرآن منذ كان عمري 5 سنوات... فقد توفي والدي رحمه الله عام 1973 و أدخلني خالي عبد الرزاق كتاب الحي ... و تواصلت عنايتي بحفظ القرآن و تفسيره ... وأثناء دراستي بالسنة الخامسة من التعليم الثانوي توليت تحفيظ القرآن لثلة من بنات قريتي و فتيانها بمقام الولي الصالح " سيدي بوعلي " .

و أعود فأتذكر رسالة محمد الأخيرة و ما تطفح به من قلق و حيرة ، فيتملكني الهلع على ما آل إليه حاله من تذبذب و ارتباك .. و عدت إلى المنزل و أنا على أسوإ حال ..، و لم أهنأ بخروجي إلى الغابة على غير عادتي ، فرأسي كانت تغلي بأسئلة لا نهاية لها حتى أحسست بدوار و كأن عاصفة هائلة تعبث بي في صحراء قاحلة . و تهالكت على أريكة اعترضتني، ثم كتبت له رسالة أقول له فيها :
- ‹‹ أخي محمد ، صحيح أني لم أعد أفهمك .. لكنني أدرك جيدا أنك أقوى من الحيرة و القلق .. إن العمل لفائدة هذا الشعب حري أن يبعدك عن كل حيرة و ارتباك ››.
‹‹إن طريق الحياة سكين حادة و كل تذبذب كفيل بإحداث الجروح البليغة المؤدية إلى الموت ››.


ابتدأت علاقتي بالحركة الإسلامية بسبب ترددي على مسجد القرية الوحيد . فقد كان بعض أتباع هذه الحركة يلقون دروسا من حين لآخر ... و كنت أكلف من قبل السيد جمال بالمشاركة ببعض المقالات في حلقات دروسهم... عمدة سيدي بوعلي السيد " المنجي " هو ابن أخي من الأب : خميس ، كانت السلط المحلية تكلفه بإبلاغي و تحذيري من مغبة الطريق الذي أسلكه ، حتى أنه اقترح علي بعد نجاحي في امتحان الباكالوريا بالتوسط لي للإلتحاق بسلك الأمن الوطني ... لكني رفضت رفضا قاطعا لنيتي مواصلة تعلمي .

كنت متابعا نهما لكل ما يصدر عن "الحركة الإسلامية " من كتب و مقالات في مجلة المعرفة ... إلا أن خطاب الحركة بعد الصراع المرير الذي خاضته الحركة عام 1987 قد صدمني بعنف ... فقد أمضت على ما سمي بالميثاق الوطني بين كل مكونات المجتمع المدني. ؟! كما وافقت على مضمون مجلة الأحوال الشخصية .. معتبرة أنه يندرج في إطار الإجتهاد الإسلامي ؟! منذ ذلك الحين بدأت في البحث عن بديل فكري .. لأني قد اعتبرتها قد تنازلت عما كنت اعتقده " ثوابت إسلامية "... و كانت الفرصة مواتية لي للإطلاع على أفكار "حزب التحرير الإسلامي" بعد التحاقي بالمعهد العالي للتنشيط الثقافي بالعاصمة .

منذ سنواتي الأولى بالتعليم الثانوي كانت تصلني بانتظام ثلاث مجلات إسلامية ، هي :"الأمة "، و "المنار الإسلامي" ، و "الوعي الإسلامي" .. وهي مجلات يشارك في كتابتها كتاب إسلاميون من كافة أنحاء العالم الإسلامي ... ثم أضفت إلى مطالعاتي مجلة " المجلة العربية " و " مجلة الفيصل و مجلة " المنهل الأدبية " ...

كنت و لا أزال مطالعا نهما لكل ما يكتب حول الإسلام كدين و كنظام حياة ... و قد حاولت أن أتطرق منذ بداية الكتابة إلى كل المواضيع الحياتية و الفلسفية من منظور إسلامي ...كما حاولت الإجابة عن الأسئلة التي تؤرقني ... كما طالعت لجل الكتاب الإسلاميين مهما كانت انتماءاتهم الحزبية بدءا بالسيد قطب و عماد الدين خليل و سعيد حوى ووحيد الدين يكن و محمد قطب و محمد عبده و جمال الدين الأفغاني و يوسف القرضاوي و محمد الغزالي و محمد عمارة و مالك بن نبي و جل فلاسفة الأنوار الغربيين و زعماء الإصلاح المسلمون ... أذكر أن أول كراس حبرته في شكل كتيب كان بعنوان : " طريقنا إلى بناء الحضارة " جمعت فيه خواطري لبلورة القوانين التي تتحكم في قيام الحضارات و انهيارها 2((راجع المقال في كتاب : نقد الإستبداد الشرقي عند الكواكبي و أثر التنوير فيه + مشروع بناء حضارة بديلة الصادر عن المطبعة العصرية بتونس 2009 )) وهو نفس المقال الذي حفزني لكتابة كراس تحت عنوان : "ضد ألظلامي حمة الهمامي " حاولت الرد فيه على كتابه : ضد الظلامية في الرد على الإتجاه الإسلامي " !

كان لي صديق، استأثرت به النشوة أياما، ثم مضت حماسته تفتر و نشوته تخبو، بيد أنه لم ينكص على عاقبيه و بقي به شيء مما كان ، أقصده كلما ألم بي كرب و اشتد علي حزن ، أطلب السلوى بحكايته التي يرويها و مغامراته التي يتقن صياغتها في كلام مشوق و حديث منمق، حالما رآني قادما إليه اهتز صدره فرحا و قال بصوت ينم عن السرور:
- أين أنت يا رجل !؟ هل نسيت عشرتنا بهذه السرعة ؟!

ثم استدرك قائلا :
- ‹‹أعلم أن مشاغل الحياة كثيرة ، لعن الله هذه الدنيا التي جعلتنا نجري وراء لقمة العيش ليل نهار دون أن ننال مبتغانا، الحياة صعبت وقل راكبها و فرقت الشمل بين الأصحاب و الخلان ›› !.
وطافت بالرجل الذكريات اللذيذة فعاوده الحنين إلي صفو الحياة و جمالها . ثم ما لبث أن تذكر شيئا ، فأشرق وجهه بابتسامة لطيفة و راح يدندن بصوت منخفض :
- ‹‹ بالله أخبرني ، كيف حال صديقك محمد ؟ ألا يزال على عناده القديم ؟! ياله من فتى ، كم نصحته أن يكرع من الحياة صنوفا و يتمتع بطيباتها ، فالعمر قصير و لا يحتمل التأخير ›› .
فحدجته بنظرة ذات معنى و قلت له بأمل و رجاء :
- ‹‹ لا تعكر اللقاء ، و دع محمدا و شأنه، فلم يطلب من أحد أن يخوض معه غمار الحياة ، ألا يحق له أن يختار طريقه بنفسه ، فهو ليس بحاجة لمن يوجهه ››.
فضحك صاحبي ضحكة عالية ذات معنى ، و قال مهدئا من غضبي :
- ‹‹ لا بأس لا فائدة من النقاش الآن ! و لكنني سأقولها دائما : ‹‹ السياسة في بلادنا خربت بيوتا كثيرة و يتمت أطفالا و أهرقت طاقات ، فلماذا لا تدعونها و شأنها ؟! ›› .
ثم أمر بإحضار الشاي، و تهالك علي أريكة و وثيرة و جلست قربه ثم بدأ في ثرثرته المعهودة و قال بحماسة و فخار:
- ‹‹ كنت أهوى البحر و أركب في سبيل بلوغه الأهوال و الأخطار..!! لذ " لقريبع" ، صديق العمر الذهاب معي إلي البحر ، وقد اشتد الحر و ذهب الريح و القر، الصائفة اشتدت حرارتها و الأجساد قد تعرت، و السواعد قد نشطت و الغرف قد اقتضت و قبلت .. و النفوس لمرماها طمعت.
أراد " قريبع" في أيام صباه ـ و قد غرم غرما بساعده، حتى اشتد بلاؤه ـ أن يجد لنفسه مأوى يرفع به عن النفس و يذهب الحر و القلق فركب سيارة استأجرها و ركبت معه ، ووصلنا البحر فطالعنا كل جمال و كمال ... نسيمات عليلة اعترضتنا و تملقتنا ... و طيور في الفضاء سابحة و لرب السماء شاكرة .. السماء زرقاء صافية و النجوم آفلة بعدما قضت الليل ساهرة و علي راحة الإنسان عاملة ... البحر ليس له حدود والماء لا يعرف له ركود. و السماء تتسع منذ عهود ... فسبحنا من وضعها بغير عمد و أقامها بغير قد، فأعانت البحر على الجزر و المد.
نظرت أمامي فإذا السماء و الأرض مطبقتان كأنهما منذ القديم متعاشرتان و لحماية نفسيهما متعاونتان .. و حملقت فإذا الماء هناك أزرق و هنا أبيض فعجبت لهذه الحال . و علمت فيما بعد... أن أبصارنا تخدعنا و لعقولنا المرجع و المنقلب.
حملنا أمتعتنا على الشاطئ و بالقرب من أمواج البحر فرشنا و تمددنا ننعم النظر في النهود .. و نتأمل الخدود التي أقبلت من كل الجهات و الحدود ... فبدأ الحمام لمرآنا يسرح و لنا يمرح . فعشقت ذات الوجنات الحمراء والأغصان البيضاء و القوام الممشوق و الحبال الطويلة السود، فشكرت الشمس علي تركها اللحم تحت أشعتها ينعش و العيون بالجمال تنعم ، و تمنيتها أكلة شهية قرب أمواج البحر . و تمنى صاحبي أخرى على الفراش الوثير تمددت و على ظهرها و بطنها تقلبت كتقلب السمك في الأحواض و الوديان ...
و أقسم صاحبي أنه لم ير مثلها أكلة في عز الصيف، فغمز صاحبي و غمزت و في بيت مهجور تم ما تم ، و أفرغنا الجيوب من النقود .. و تمنيت و تمنى صاحبي لو هدمت السدود التي سطرت بالحدود ، و القلم الممدود حتى ننعم بدون عقود .. وقلت لـ " قريبع " :
- ‹‹هذا يومنا فلا نفرط فيه !! و قصدنا مجلس العم طاهر و قد جعله صاحبه لسراة القوم مقصدا ليشربوا النبيذ و يرقصوا حتى الثمالة . و قبل أن ندخل المجلس لمحنا العم الشاذلي بوصيد دكانه جالسا و علي سحنته هم و غم ، فخلنا أن ماله قد ذهب و بقي في نكد ... فصارحته بذلك . رفع رأسه حيرة و تنهد من الأعماق و قال و هو يتمالك أنفاسه المضطربة :
- ‹‹ لقد ذهبت الحرة بعد أن تركت في نفسي غمة ››.
فقلت مواسيا:
- ‹‹لا عليك فالنساء في الوجود كثرة و صيدهن أيسر من شرب الخمرة ، فالنفس له اشتاقت و لنبيذه تشوفت و ارتاحت . فانفرجت أسارير وجهه و تنهد مسرورا و قام و أغلق الدكان و انصرفنا ...!
و لما اقتربنا من المجلس رأينا الليل قد ذهب ظلامه، و تلألأت نجومه و أنواره و تصاعد في الجو البخور من القدور ، و تعالت الأصوات و عم الضجيج و الصياح و انتابني شك في المجلس المقصود ، فهرول العم الشاذلي و هرولنا خلفه و تسابقنا للجنان ، خدر الأكواب الموضوعة ، و النمارق المصفوفة ، و الزرابي المبثوثة و الحور العين .. و اللحم المشوي .. رائحة زكية بعطر و زنود ونهود بيض نقية ... و ...
و دخلنا و دخل العم الشاذلي ... و رفع على الأعناق .. فالجميع صحبه و بشذى أقاصيص غرامه و مغامراته تغنوا و ترنحوا .. قال العم الشاذلي مسلما :
- ‹‹ حياكم الله معشر الشباب ››
و رد الجميع بحماس فياض:
- ‹‹حييت يا عم ››.!
ثم أخذ العم الشاذلي مجلسه و جلسنا . و عاد العم يقول هاتفا بصوته الأجش :
- ‹‹ إلي أيتها المليحة ، هات الكؤوس التي تحيي النفوس و اسقي أهل الفؤوس ››∙
هرولت أحداهن و قدمت الشراب في الكؤوس فاشرأبت إليها الأعناق و النفوس، فتسلمها العم الشاذلي و أجلس المرأة أمامه و أشربها النبيذ لتسقيه من خمرها اللذيذ ثم ارتمى عليها لتبادل الحلو و المر، ثم مد الكأس و صب الخمر على الرأس، فاشتد الغيظ بالفتاة و نهرته، و قربت إليها ‹‹قريبع›› و قد كان يتفحش مع إحداهن فغضب العم الشاذلي و امتلأ حنقا و قال بحدة و هو يتميز من الغيظ :
- ‹‹ لأعبثن بالمجلس يا غواني ›› فقالت المرأة تستفزه :
- ‹‹دع لي هذا الشاب يا عم ، فساعده بقوة الشباب معمر ، و أنت فقدتك النساء صلابته، فتهرأ ..!
فازداد غضبه ، و أمتلأ صدره حنقا و قال بصوت رفيع :
- ‹‹هاكم المال يا معشر الغواني .. و أخذت الدنانير تتناثر عن يمين و شمال .. و كثر الصخب و اللغط .. و تسابقت النسوة الحاضرات لجمع المال و العم الشاذلي واقف يضحك و يقهقه... رن الجرس ليعلن انتصاف الليل ، فترنحت الرؤوس ، و ذابت القلوب ..
ثم خرج العم الشاذلي و خرجنا ...!


يبدو لي أن "حركة الإتجاه الإسلامي" قد ولدت كما يولد كل المواليد الجدد على الفطرة ، فنالت إعجاب كل الشباب المتطلعين لأن تعيش بلادنا على قوانين الفطرة الإلاهية حتى تحقق القوة و المناعة و الإزدهار ... و تنجو من حالة التخلف الحضاري التي يرزح تحتها كل المسلمين في العالم . لكن سعي قادتها لدخول المعترك السياسي القانوني بعد 7 نوفمبر 1987جعلها تتنجس بنجاسة أصحاب المصالح و الأغراض الدنيوية و تسقط في بركة من المياه الآسنة.. و تضحي بنقائها و طهرها و طهر القوانين الفطرية التي فطر الله الناس عليها ... مما أربكها في المضي قدما بالمشروع الإسلامي الذي خطته لنفسها منذ البداية . و هذا الإنحراف عن الإستمساك بالحق ، قد فرق شمل أفرادها و جلب مآسي و كوارث لأعضاء هذه الحركة لا تحصى و لا تعد تماشيا مع القانون الإلاهي الأزلي : " و ما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم " على عكس ما يظن قادتها .3 ((راجع : تقرير منظمة " هيومن رايتس ووتش تحت عنوان : سجن أكبر، قمع السجناء السياسيين السابقين في تونس الصادر في شهر مارس 2010

صيف 1990 أوقفتني الشرطة بتهمة الإنتماء إلى حزب التحرير الإسلامي ، و قد كنت وقتها أعمل بمخزن لبيع مواد البناء ... لكن الأعوان الذين فتشوا منزلنا بشارع الجمهورية لم يجدوا ما يثبت اتهامهم لي ما عدا بعض المنشورات التي كان حزب التحرير يوزعها في مساجد العاصمة ، و قد أكدت لهم حصولي عليها بغرض الإطلاع على أفكار حزب التحرير لا غير ... و بعد بحث استمر 5 أيام أطلق سراحي بدون محاكمة . و عدت لمواصلة تعلمي بالمعهد العالي للتنشيط الثقافي .
في الحقيقة بهرتني أفكار حزب التحرير في البداية لتماسكها الظاهري ... لكن فكرة الخلافة و الخليفة الذي يحكم و يتبنى الأحكام و غيرها من الصلوحيات ... لم ترق لي ... و رأيت أن "حزب التحرير الإسلامي" – في آخر المطاف – يريد أن يستبدل استبداد الحكومات العربية و أنظمتها البوليسية بنظام أشد استبدادا و أخطر على مستقبل أمتنا الإسلامية... و قد أبديت هذا الرأي في رسالة ختم الدروس بالمعهد العالي للتنشيط الثقافي عام 1992 4 (راجع الرسالة في كتاب : نقد الإستبداد الشرقي عند الكواكبي و أثر التنوير فيه + مشروع بناء حضارة بديلة الصادر عن المطبعة العصرية بتونس 2009 ).

أواخر عام 1994 وصلتني برقية من وزارة الثقافة تعلمني فيها بإيقافي عن العمل و إيقاف مرتبي" من أجل تربص غير موفق "!?
جمعت حقائبي صحبة زوجتي و قصدنا قرية سيدي بوعلي ... فرفضت أمي استقبالنا في منزل والدي المرحوم سالم بن عمر!? ثم عثرنا على منزل متواضع للكراء ، فأقمنا فيه .

في الحقيقة يعود قرار الطرد إلى أواخر عام 1993 إذ أوقفت عن العمل لمدة تزيد عن الشهر بحجة تغيبي عن العمل دون إشعار الإدارة !? و قد كنت بعثت بشهادة طبية إلى المندوبية الجهوية للثقافة ببنزرت .. لكن يبدو أن الإدارة رفضت سبب الغياب فادعت أني لم أقم بإشعارها . انتهزت حينذاك فرصة إيقافي عن العمل و قصدت كتابة الشؤون المالية و وزارة الثقافة استوضح سبب إيقافي ، فمكنني الكاتب من ملفي فعثرت على وثيقة بالصدفة ضمن أوراق ملفي بعث بها مدير إدارة التنشيط السيد بوبكر بن فرج إلى السيد وزير الثقافة يعلمه فيها أنه قد بلغ إلى علمه أن السيد "محمد" كان عضوا نشيطا بحزب التحرير الإسلامي " لما كان طالبا بالمعهد العالي للتنشيط الثقافي " فكان رد الوزير بخط يده على هامش هذه الوثيقة ، بضرورة أخذ الإجراءات اللازمة لإيقافي عن العمل !?
استطعت أن أخرج من الوزارة بسرعة فائقة دون أن يلمحني الكاتب واستنسخت هذه الوثيقة الهامة ، ثم أرجعت ملفي إلى الكاتب الذي كان يظنني أمام مكتبه بصدد الإطلاع على ملفي ..
كانت هذه الوثيقة الهامة البرهان الساطع الذي تقدم به محامي السيد محمد علي الشريف لدى المحكمة الإدارية ضد وزارة الثقافة لإلغاء قرار الطرد التعسفي . و قد صدر الحكم عام 1998 و قد رفضت الوزارة الإستجابة لقرار المحكمة بحجة أنه يتعذر تنفيذه !?

- "إن مجتمعا لا تلبى فيه الغرائز بصورة طبيعية هو مجتمع متخلف!! " .. هذا ما كان يردده محمد بلهجة فيها كثير من الجد و الحرارة.
- " إن المجتمع الذي تكبت فيه الحرية و يستشري فيه الإستبداد و يلبي أفراده غرائزهم بصورة ملتوية يسهل انبهاره بتقاليد و قيم مجتمع آخر و يفقد الثقة بتقاليده و قيمه ، فيتلاشى بذلك الإنسجام الداخلي للمجتمع و يفقد القدرة الذاتية على النهضة و بناء الحضارة .."!
تذكرت كل هذا لما كنت راجعا من عند صديق المغامرات . استوقفني موزع البريد فجأة و سلمني رسالة ، قلبت الرسالة بسرعة ، كدت أطير من الفرحة عندما تبينت على الظرف خط محمد .. رجعت إلى المنزل و أنا أسابق الزمن ، فتحت الظرف ، حجم الرسالة كبير على غير ما عودني عليه محمد ، و تساءلت بيني و بين نفسي " هل تراه وجد حلا لشكه و حيرته !؟"

" لن أحدثك هذه المرة عن نفسي ، سأسرد عليك قصة عجوز عرفته في المدة الأخيرة ..
قال محدثي :
- " كنت أسكن بحي شعبي في إحدى ضواحي العاصمة ، سعيت و أنا في مقتبل العمر إلى تحسين وضعي الإجتماعي ،سافرت كثيرا إلى خارج حدود الوطن ، حتى جمعت رأس مال محترم ، بعد سنوات من الغربة و التشرد ذقت فيها العذاب ألوانا .. و عرفت الحرمان و الخصاصة ، رجعت بعدها إلى بلادي ، و كونت مشروعا تجاريا ناجحا .. و انتشلت عائلتي كبيرة العدد من الفقر ، حتى أحسست أن الزمن بدأ يهدني هدا و يقتطع مني كل يوم جزءا ، فسارعت و بحثت عن فتاة تكون رفيقة دربي فيما بقي لي من أيام لتشاركني أفراحي و أتراحي و تعينني على تحمل أعباء الحياة .
رأيتها تتبختر ذات يوم في إحدى شوارع المدينة ، كانت ممشوقة القوام ، رقيقة الملامح ،صافية العينين ، حنونا ،فخفق قلبي لها ،و أحسست أني مكبل بقيود جمالها و أنوثتها ، و سألت عنها ، فقيل لي إنها أجمل فتاة في الحي الذي تسكنه .. فتزوجتها . "
" لقد أصبحت تسيطر على أحاسيسي بجمالها الفتان ، و تملكني شعور بعجزي عن حماية هذا الجمال من عيون الذئاب التي تلتهمه التهاما بشراهة ، كلما خرجت من المنزل و تشرئب لها الأعناق ، كلما سارت في الشارع ، و تحول عجزي إلى غيرة قاتلة ..!
- " أصبحت أغير عليها من كل شيء ، من كل شيء .."
و تنهد الشيخ من الأعماق كأن قلبه يحترق أسفا و حزنا .. ثم قال :
- "و في هذا الجو الغريب ولدت ابنتي رابعة .." ثم يصمت الشيخ برهة و يحدجني بنظرة حالمة ثم يقول بصوت منخفض :
- " كنت أنتظر أن يخفف مقدمها حدة توتر العلاقة بيني و بين أمها " و قطب الشيخ في تقزز و ندت عنه الكلمات بلا وعي .. و في ازدراء شديد ..:
- " و لكن شيئا من ذلك لم يحدث "!!
و تمتم في ارتباك وهو لا يدري ماذا يقول :
- " تحولت غيرتي إلى هوس مزمن لم أستطع منه فكاكا ..!؟ "
"كنت أتقدم نحو الشيخوخة و العجز و كنت أرى زوجتي في غاية الجمال و الأناقة و الحيوية، و صرت أكره هذا الجمال و صاحبته و أحقد عليها كثيرا . و تحول حقدي إلى عنف ، فكلما حاولت زوجتي الإقتراب مني زجرتها و عنفتها واعتقدت أنها تخدعني ، حتى أمست حياتنا جحيما لا يطاق .. و انتهت بالطلاق . ثم يصمت الشيخ برهة و يواصل قائلا :
- " يبدو أن شعوري بعجزي و بخيانة مطلقتي بقي يشغل بالي .. كنت أنتظر أن تتغير حالتي .. و يفارقني هذا الشعور الغريب بعد أن بقيت ابنتي رابعة في بيتي و تحت رعايتي .. " على أن شعوري نحو أمها لم يتغير بل كنت أتسقط أخبارها من حين لآخر .. حتى بلغني أنها قد سافرت للعمل خارج حدود الوطن ، و يسعل الشيخ حتى خلت أن روحه .. ستصعد إلى بارئها .. ثم يواصل حديثه وهو يرتجف كمن به حمى ..:
- " رجعت يوما من العمل ، كانت رابعة نائمة كملاك ، دخلت غرفتها ، و بسرعة غمرت ذهني الخواطر المرعبة .. و تصورتها أمها .. و في تلك اللحظة تملكني حقد كبير على الجمال و صاحبته ، و بدون أن أشعر وجدتني أخمد أنفاسها و أنا أصيح بصوت كالرعد : " لا .. لا يمكن أن تعيشي أكثر .. "

ألقيت بالرسالة على السرير و أنا أرتعد من شدة الغيظ . و تساءلت بيني و بين نفسي :
- " ماذا يعني محمد بسرد هذه القصة المحمومة وقد كنت أنتظر منه أن يحدثني عن حاله ؟

عملت مدرسا خصوصيا لبعض أقسام الإبتدائي بقريتي بعد طردي ، وانتقلت زوجتي للتدريس بالفرادى من معتمدية النفيضة ... لم تسعنا الحياة بسيدي بوعلي بسبب كثرة المشاكل العائلية التي تلاحقنا من قبل أمي ... فخيرنا الإنتقال إلى مدينة حمام الأنف ، أين عملت بالشركة التونسية للنقل البري ببن عروس ، و عملت زوجتي مدرسة بمدرسة بوصفارة بحمام الأنف ... واستطعت تأليف أول كتاب لي و إصداره عام 1995 و كان بعنوان : اللسان العربي و تحديات التخلف الحضاري في الوطن العربي الإسلامي .(راجع الكتاب الصادر عن المطبعة العصرية بتونس عام 1995).
إن إقامتي بمدينة حمام الأنف سهل لي التواصل مع عديد الصحف الوطنية ... كما نشرت أول مقال لي بصحيفة القدس العربي و كان بعنوان: "حياة أنعام" . (راجع المقال بمدونتي " إسلام 3000 ).
Islam3mille.blogspot.com
ثم تتالت كتاباتي بهذه الصحيفة الغراء .. و بعض الصحف و المجلات العربية .

تحمست السيدة آمال في البداية للأفكار التي كنت أنشرها ، و شجعتني كثيرا على الكتابة و حضور المهرجانات الثقافية التي كان يقيمها التجمع الدستوري الديمقراطي في مختلف جهات الجمهورية ... لكن خضوعها لضغوطات كثيرة من قبل بعض عضوات الإتحاد النسائي التي كانت تنتمي إليه ، و عدم رضا أبيها عن زيجتنا قد أثرت فيها بشدة حتى صارت تخشى على وظيفتها .
بدأت المشاكل تتسرب إلى حياتي مع زوجتي حتى صرنا نعيش جحيما لا يطاق .... فقررنا أواسط عام 1998 الفراق الأبدي ، على إثر خصومة بسيطة بمدينة جرزونة ببنزرت التي كنا قد انتقلنا إليها لتونا ... و عملت هناك تاجرا متنقلا حتى أستطيع
تحمل كل المصاريف لوحدي ... !? بما فيها نفقة طليقتي و ابنتي شيماء المولودة حديثا . لقد كشفت طليقتي بعد انفصالنا عن شخصية رهيبة و قاسية عكس ما توسمته فيها، بل لا تزال تصرفاتها تربكني إلى اليوم. !?
في الحقيقة بدأ صدامي مع السيدة آمال منذ بدايات تعارفنا ...فقد اكتشفت صدفة أنها تدخن بنهم كبير ، على إثر خروجها من مرحاض بدار الثقافة الشيخ إدريس ببنزرت ، أين كانت تختفي لتدخن "سيقارتها" ، و قد حذرتها من تواصل هذه العادة السيئة ، و قلت لها لو علم أهلي بأني سأتزوج من مدخنة لظنوا تلقائيا أنك "فاسدة " من بنات المواخير ، هكذا يعتقد جل سكان قريتي الساحلية إلى اليوم ، كانت آمال تريني صور صديقاتها المحجبات لتوهمني أنها تتجه صوب ارتداء اللباس الشرعي الإسلامي !? لكني كنت أعتقد من خلال سلوكياتها أنها تكذب!? و أنها أصلا لا تصلي بالمنزل كما كانت تزعم لي كلما ذكرتها بفريضة الصلاة ،كانت رأسها الكبيرة مليئة بالخرافات و المعتقدات الشركية الفاسدة ، "فجدها الأكبر سيدي البشير " كانت ترى أنه لو اشتريت لها ذهبا قبل دخولي بها سيحرق كل جهازها و يفسد حياتها معي عقابا لها على مخالفة تعاليمه !?
كما اكتشفت بعد كتابة عقد الزواج أن المرأة التي سهلت لنا كتابة عقد القران لم تكن سوى عرافة كانت تقصدها آمال لتبحث لها عن زوج و تسهل" مكتوبها "و قد نهبت منها مالا كثيرا مقابل خدماتها في اصطيادي !? كما اكتشفت أن هذه العرافة كانت ترسل لي رسائل كلامية عن طريق آمال للكشف عن توجهاتي الفكرية و انتماءاتي السياسية !?
إن هذه المعطيات قد أدخلتني في حيرة وارتباك ... و ألقت بي في جحيم لا يطاق ، كان سببا في قطع علاقتي بها زمنا لكن الرقة التي كانت تبديها تجاهي و اعتذاراتها المتكررة !?و حاجتي الماسة إليها جعلتني أستجيب لدعوتها في الاقتران بها على أن تقطع صلتها نهائيا بـ"أمها سيدة " كما تناديها ، خاصة بعدما علمت بوسائلي الخاصة أن هذه السيدة تجمع في منزلها بالكرم ثلة من الشواذ جنسيا و تتوسط لبعض الأجانب – من ليبيا و تركيا .. – في عقد صفقات جنسية مع بناتنا و نسائنا... !?

"لا تظنوا بي أيها السادة ظن السوء، فتعتقدون أني أصبحت بوقا لمحمد و صولاته " أنا لست مسئولا عن مشاكل العالم، أنا فقط أبحث عن الخلاص لنفسي " " لقد جف نبعي ، بي ظمأ كبير إلى الحياة و بهجتها ، أريد أن أكرع من لذاتها كما يكرع الطفل من ثديي أمه الحليب و الحنان ،، بي شوق إلى الحياة شديد ، أريد أن أقبل على الحياة بدون مساحيق المجتمع التي تكبلنا و تصنع منا شخصيات غير التي نريد أن نكون ،إن حياة الإنسان تجربة من جملة تجارب عديدة تقع أمام أعيننا كل يوم ، فلماذا نحمل أنفسنا أكثر مما تطيق !؟ و لماذا لا نترك السفينة تمضي حيثما تشاء !؟
الحياة لا تستحق زفرة واحدة و لا دمعة حزن ، فلماذا نندم ، و لماذا نتخاصم و لماذا الإحن التي بيننا ... و لماذا كل هذه الحروب و الخصومات ؟؟! لماذا لا يعيش الناس في محبة و سلام و وئام !؟
أنا أريد أن أحيا كالطفل في عفوية تامة ، إني أكره المساحيق ، مساحيق المجتمع و قيوده الضالة الجانية المجرمة ... أريد أن أكون أنا و ليس كما يريدني الغير .. لماذا لا نعيش التعدد و التكامل و الوحدة !؟ إني لأعجب من تنوع عناصر الطبيعة مع تناسق أجزائها و تكامل أدوارها فلماذا لا نتنوع نحن البشر و نتناسق و نختلف و نتكامل !؟ إن الطبيعة رحبة فلماذا لا تتسع صدورنا للآخر !؟ و لماذا لا نقبله كما هو ، و لماذا نتراشق بالسهام و نتصارع و نتناحر و الشجر يعلمنا أنه كلما قذف بالحجر ألقى بثماره اليانعة !؟
لماذا لا يرتع المرء بين الثمار اليانعة المتواجدة في كل مكان حتى يشعر بالإمتلاء و الحب و الأمل و الأمان .. و تمتلئ حياته سعادة و بهجة و سرورا !؟ إنها ينبوع الحياة و سر الوجود ، الخيرات تملأ الأفاق .. لكن لا أحد بلغ الشبع و الإرتواء ، لماذا كل هذا يا ترى ؟!؟
ما هي قيمة الإنسان إذا لم يقدر على تكريس مباهج الحياة و خيراتها لفائدة أخيه الإنسان !؟ هل خلق الإنسان ليعذب أخاه الإنسان !؟
أواه منك أيها العالم ، كل شيء فيك غريب ؟ عجيب ، محير ، مقرف ، مخجل ، قلت فيك المروءة ، و ندر الحياء ، و انقرضت القيم ، يتحكم في مصيرك الخبيث و اللئيم و المهرجون ، ... أواه ... ثم أواه ... كل شيء فيك يشعر بالإختناق و التأفف ، يظنك الجاهل بخفاياك ، فيك رواء للضمآن و أنت تسقيه السم الزعاف و لا يشعر ..
!؟ أحياؤك ميتون و ما يشعرون !؟ سوائم بدون قوائم ، و لا يدرون ؟ على وجوههم هائمون !؟
أما متنبؤو العصر الحديث ، المقروءات و المسموعات و المرئيات ... فتلقي الإحن بين الأفراد و الجماعات و المجموعات .. والعداوات !؟ و الناس في غيهم سائرون ، و على نهجهم ماكثون ، لكن عشيقتي المحبوبة أراها أخذت تنزع عنها ثوب الهوان .. و تسير بخطى ثابتة نحو الهدف المراد .. فإلى الأمام يا أعز عشيقة في الوجود .. و لا تخشي شيئا و لا تجبني ، فأنت عاشقة بك صبابة ، و لا يخشى العاشق الولهان .. !

كان لآمال ابن عم يدعى صالح من "جومين" ، و كان صالح هذا يزورهم من حين لآخر و يبيت عندهم في منزلهم الضيق ، فحذرتها بعد عقد قراني عليها من تركه يبيت بمنزلهم لأنه غير محرم ، و بعد نقلي إلى "سيدي بوزيد" هاتفتني زوجتي من بنزرت من مركز عمومي للهاتف ، و أ بلغتني أن ابن عمها يسلم علي وهو حاليا يتواجد معها ، فهالني الأمر و علمت أن زوجتي لا تحترم قراراتي ، فما كان مني إلا أن أرسلت لها مكتوبا أعلمها بضرورة انفصالنا لاستحالة تفاهمنا واختلافاتنا الجذرية في كل توجهاتنا الفكرية و الدينية ... و رجوتها أن نطلق بالتراضي قبل دخولي بها ... لكنها أصرت على تواصل علاقتنا و وعدتني أن لا تعصي لي أمرا مستقبلا .. !? ثم لحقت بي إلى مدينة سيدي بوزيد و تكبدت مشاق السفر و مخاطر الطريق و أمضت معي أسبوعا تسترضيني ، مما جعلنا نتفق على إتمام مراسم الزواج في شهر أفريل من عام 1994، و قد استطاعت استرضاء أبيها للموافقة على إتمام مراسم الزواج بمنزله .
عجيب أمر هذه المرأة التي صارت زوجتي، فرغم كونها إطارا تربويا ... إلا أن الخرافات تملأ رأسها حتى أخمص قدميها !?
اعتقدت أن زواجي بها و إقامتنا بسيدي بوزيد سيصلح قليلا من سلوكياتها الشاذة و يرتقي بأفكارها الساذجة ، ... لكن شيئا من ذلك لم يتحقق ، حتى أن تلميذة تجرأت و قالت لي بمكتبي ، إنها قادرة على تنغيص حياة زوجتي إذا شاءت ذلك ... قالت لي هذا الكلام على خلفية حوارها مع زوجتي التي كانت تصر على زيارتي بالعمل كل يوم. فهي تتصرف و كأنها قد اختطفتني أو تزوجتني غصبا ... ؟!
قلت لها ذات مرة مازحا :
- إني قد تزوجت قبلك خمس مرات و لم ألاحظ على واحدة منهن غيرة ... فصدقت كلامي و ثارت ثائرتها و بقيت تنوح يوما كاملا. ؟!
حلمت ذات ليلة أن جارتنا المطلقة "نجاة" المقيمة بحمام الأنف قد مارست معي الجنس، فبقيت تعتقد بصحة "حلمها" إلى اليوم حتى بعد طلاقنا !? لم أكن أتصور قبل زواجي أن امرأة متعلمة بل إطارا تربويا يمكن أن تعشش برأسها الخرافات و السذاجة بهذا الشكل مطلقا . كنا كلما خرجنا في نزهة يملؤني الحنق و الغضب على زوجتي بشكل فضيع حتى صرت أخشى على نفسي من الأمراض المزمنة التي يعاني منها جل التونسيين المتزوجين ... لقد استطاعت إرباك حياتي منذ تعارفنا و تحويل حياتي إلى جحيم لا يطاق .
حاولت إقناعها مرارا أن ننفصل بالتراضي لأني لم اعد أستطيع تحمل غرامات طلاق الإنشاء بعد طردي من وزارة الثقافة، لكني فشلت ... تركت لها المنزل ذات يوم بحمام الأنف و قفلت راجعا إلى قريتي متعللا أني سأجمع منابي من الزيتون من إرث والدي !? ... و أعلمتها أني لن أعود إليها حتى تكف عن التصرفات الرجالية معي .. !? و تعود أنثى قلبا و قالبا ... فصارت تهاتفني كل يوم و تترجاني العودة إليها و تعدني بإصلاح نفسها و أخطائها في حقي ... لكن دون جدوى !? لقد أدخلتني هذه المرأة في حيرة مزمنة ... حتى صرت أعيش الكوابيس بالليل و النهار ، فهجرتها أواخر 1997و أقمت بمدينة سيدي بوعلي و أقامت هي بمنزل والدها ببنزرت ... في شهر ماي 1998 أقنعتني بالسكن معها بمدينة جرزونة قريبا من منزل والدها و كانت في الأشهر الأخيرة من حملها بشيماء ... لكن يبدو أنها كانت تهدف إلى استرجاع بعض أدباشها التي كنت قد أخذتها معي إلى سيدي بوعلي ... إذ بمجرد إقامتنا هناك لأيام انتهزت فرصة خروجي لصلاة العشاء يوم الجمعة 22 ماي 1998 و غادرت المنزل دون رجعة ... و كانت مغادرتها المنزل آخر عهدي بهذه المرأة العجيبة، إذ استعملت كل الحيل القانونية الممكنة حتى نطلق بالتراضي وهذا ما حدث و الحمد لله .
بقيت مقيما بجرزونة على عكس ما اشتهت السيدة آمال ، إذ ناشدتني مرارا بعد مغادرتها المنزل و ولادة ابنتي شيماء يوم 19 جوان 1998 أن أعود إلى قريتي !? و كانت تأمل من وراء ذلك أن تتمكن من تحقيق كل مطالبها في مطالب النفقة و غيرها ... حتى تستطيع تكبيلي بأحكام قضائية تجعلني أركع أمامها طلبا للرحمة و إعادتها لي بحسب شروطها هي . !? و حتى لا أستطيع مواصلة إجراءات الطلاق الوضعي الذي يشيب من هوله البنون ... !?
و حصلت بتاريخ 5 نوفمبر 1998 في القضية عدد 14713 التي كنت رفعتها ضد وزارة الثقافة على حكم يقضي بإلغاء قرار الطرد ، و بادرت بإعلام الوزارة بالحكم بتاريخ 17 جويلية 1999إلا أن الوزارة امتنعت عن إرجاعي إلى وظيفتي بحجة أنه يتعذر تطبيق الحكم . !?

رجعت أواخر سنة 2000 إلى قريتي بعدما أنهكتني تجربة الطلاق و التي كادت تدمرني لولا رحمة ربي .. حتى أن قاضي الصلح قد توجه إلى طليقتي مخاطبا إياها بحدة : " لو كنت مكان زوجك لكنت الآن مجنونا متنقلا في شوارع بنزرت حافي القدمين !?" هكذا نطق هذا السيد بعدما عرف خطورة المشاكل التي كادتها لي طليقتي بمعية "توتة" زوجة أبيها و بتدخل سافر من والدها عون الأمن المتقاعد و الذي ألجمه الله بلجام الصمم بسبب ما اقترفه في حق عباد الله ، مستغلا وظيفته !?
عجيب أمر المرأة في تونس !!! يبدو أن القوانين الوضعية الظالمة التي استنوها لها و للأسرة عموما منذ استقلال تونس تحت مسمى " مجلة الأحوال الشخصية " قد حولت هذا الكائن الذي فطره الله على الرقة و اللطف و الشعور الأكيد بالحاجة الماسة إلى حضن الرجل و سكينته ... قد تحول هذا الكائن تحت تأثير هذه القوانين الوضعية الظالمة إلى كائن شرس أضعاف شراسة الرجل ... ترى بأم عينك أن صفة الحياء و الحشمة قد نزعتها المرأة التونسية عن نفسها حتى صارت كاسية /عارية و قد غيرت خلق الله في لباسها و فكرها و سلوكها ...فتضاعف الطلاق ... و اشتد الصراع بين الرجل و المرأة و كثرت العداوات بين الرجل و المرأة و بين الأخت و أخيها و بين التلميذ و زميلته في المعهد أو الجامعة .. !?
كل المجتمع صار يعيش في دوامة من العنف اللفظي و المادي لأنهم بقوانينهم الوضعية الظالمة المتصادمة مع فطرة الخلق صار الكل يخضع لضغوطات أسرية و مهنية واجتماعية ... حولت حياة الجميع إلى ضنك في العيش و اسودت الدنيا في عيون الجميع وادلهمت الخطوب ... إنه وعد الله يتحقق فينا لأن مجتمعنا حكاما و محكومين قد أعرضوا عن آيات الله و قوانينه التي أمر بإتباعها في تنظيم علاقات بعضنا ببعض . !? ( راجع مدونتي في مقال بعنوان: بسبب الحداثة التغريبية ،المرأة التونسية أتعس نساء أهل الأرض !)
news.maktoob.com/story_list/816369/ islam3mille.blogspot.com

لقد جربنا نحن التونسيون ، القوانين الوضعية الظالمة ، واقتبس حكامنا ما شاءوا من القوانين الوضعية الأوربية لكن حالنا تزداد سوءا يوما بعد يوم !? و مشاكلنا الإجتماعية و الإقتصادية و السياسية تزداد تعقيدا حتى استشرى الإدمان على الخمر و المخدرات بين جميع الفئات هروبا من المشاكل و عجزا أمام الأوضاع المأساوية التي صار يعيشها المواطن في كل مكان . لقد أدى بنا تطبيق القوانين الوضعية التي لا تراعي محارم الله و حدوده إلى مهالك لا تحصى و لا تعد واستفردت أقلية ضالة عن هداية الله، بكل ثروات البلاد و احتكرت المناصب الفاعلة في المجتمع و النفوذ المطلق حتى غدا الإستبداد سيد الموقف و صار الإستفراد بالرأي سمة غالبة على تصرفات كل أفراد المجتمع و مختلف الفئات الإجتماعية و النخب السياسية و رؤوس الأموال و الأعمال . !?
يظن المسلمون في تونس و في سائر بلاد العالم الإسلامي ، أن القوانين الفطرية المفصلة في القرآن ، التي أوحى الله بها إلى نبيه محمد صلى الله عليه و سلم ، هي قوانين مرحلية تخضع للتطور و الإجتهاد و تختلف باختلاف الزمان و المكان ... فعملوا بعد نيل استقلالهم على اقتباس القوانين العلمانية ، التي لا تستند في استنباطها على القوانين الإلاهية في القرآن ، رغم وحدة هذه القوانين الإلاهية منذ نزول آدم عليه السلام إلى الأرض ، لأنها قوانين فطرية مسطرة بعلم الله منذ الأزل ... فظلوا و أظلوا و تنكبوا عن نور الله و هدايته و بصائره .. فتاهوا في ظلمات بعضها فوق بعض. و عوض تحقيق الإستقلال و التقدم الحضاري لبلدانهم و نشر الأمن و الإستقرار بين مواطنيهم ... تراهم قد ازدادوا ارتكاسا و تخلفا وارتهانا لقوى الإستعمار و الإستكبار العالمي!? و حولوا بجهلهم و ظلمهم لأنفسهم ثرواتهم و مناجمهم البرية و البحرية و الطاقية ... إلى فيء منتهب من قوى الإستكبار بأبخس الأثمان و أزهد الأسعار، مما حول كل "القادة " و "الزعماء" و الشعوب الإسلامية إلى خدم و عبيد لمن استعمرنا بالأمس القريب . !?
إن قوانين الله المفصلة في القرآن هي قوانين فطرية أزلية لجميع المؤمنين بالله في مختلف الأزمان و الأمكنة لكن إنزال هذه القوانين الأبدية إلى الواقع المعيش للمؤمنين .. هو تنزيل نسبي و حيني يخضع للتأقلم و مراعاة الظروف الزمانية و المكانية .. فعندما يؤمر المؤمنون في حياة الرسول ص بــ" و أعدوا لهم ما استطعتم من قوة " فلا شك أن القوة في ذلك الحين تتمثل أساسا في الخيل و السيف و السهم ... أما في عصرنا الحاضر ف"القوة" تتمثل أساسا في الدبابة و الطائرة الحربية و الصواريخ المتنوعة ، و الأسلحة النووية و غيرها ... و هكذا فإن كلام الله و أوامره تبقى أوامر و قوانين أبدية يلتزم جميع المؤمنين باتباعها دون تأويل يحيد بها عن الوضوح الذي تتسم به كل أوامر الله و نواهيه في القرآن .أما أوامر الرسول صلى الله عليه و سلم بتعلم "الرماية و ركوب الخيل" ... فهي أوامر نسبية لا تصلح إلا لأتباعه من المؤمنين في عصره ... و بالتالي لم تعد صالحة لنا في عصرنا الحاضر مهما أولناها .. و إذا أصررنا على اتباع أوامر الرسول صلى الله عليه و سلم بدعوى التمسك بسنته ... صرنا دراويش العصر الحديث كما هو حال الحركات الإسلامية ... . !? و هكذا تكون أوامر الله و قوانينه في القرآن / الوحي المعجز هي أوامر و قوانين أزلية مطلقة صالحة لكل زمان و مكان ... أما كلام الرسول و أحاديثه و قراراته و أوامره فهي أوامر نسبية لا تصلح لنا في عصرنا الحاضر.
(راجع الرسالة في كتاب : نقد الإستبداد الشرقي عند الكواكبي و أثر التنوير فيه + مشروع بناء حضارة بديلة الصادر عن المطبعة العصرية بتونس 2009 ).
إن تشبث " علماء الدين"في ديارنا الإسلامية بأقوال الرسول صلى الله عليه و سلم ، و تركيزهم عليها دون السعي الجاد لإقامة "دولة التوحيد" التي تنزل كل شريعة الله إلى دنيا المسلمين ... في صلب أنظمة علمانية مستبدة لا تحتكم إلى ما أنزل الله، يعتبر انحراف كبير عن الإسلام و شرك بالله لا يغتفر و صد عن سبيل الله و كفر به ، وجب على المؤمنين الصادقين مقارعته بالحجة الدامغة لتخليص المسلمين من العنت الذي وقعوا فيه . 8- راجع مدونتي على الأنترنات :
Islam3mille.blogspot.com
إن مغادرة السيدة آمال لمنزلنا بجرزونة شكل لي في البداية صدمة عنيفة و ضربة قاسمة ... ارتأت زوجة أبيها "توتة" أنها ستؤدبني و ستجعلني أركع تحت قدميها ، و أعتذر عن زواجي من ابنتهم بدون الحصول على رضا أبيها "الحاكم بأمره" .
لكن بعد موافقة صديقي مكرم ابن صاحب المنزل الذي أقيم به ، العمل معه كتاجر متنقل بين حانات مدينة بنزرت و سيطرتي على المصاريف التي كنت أحتاجها للبقاء هناك ، كل ذلك جعلني أشعر براحة كبيرة و أعود شيئا فشيئا إلى طبيعتي الهادئة ، و بدأت أحس لأول مرة منذ زواجي بهذه السيدة العجيبة .. أن الدماء عادت تسري في عروقي من جديد ، كمن كان قد غرق في بئر عميقة يتربص به الموت من كل مكان ، و فجأة تدخلت القدرة الإلاهية لإنقاذي من الموت المحقق !?.
خاطبني صديقي رضا وهو ضابط بالبحرية :
- الآن فقط عادت الدماء إلى وجهك يا محمد !? وهو الذي كان يراني من حين لآخر قبل انفصالي عن زوجتي . ثم أردف :
– لا شك أنك كنت معقدا من مصاحبة امرأة بدينة بذلك الشكل . !?
بدأت أتعافى رويدا رويدا ... من الكوابيس التي سببتها لي هذه الزيجة الملعونة ، و التي أهوت بي في مكان سحيق ، خاصة بعدما استطعت احتضان ابنتي شيماء لأول مرة بعد ولادتها بأشهر عديدة !?

قبل عودتي من بنزرت إلى سيدي بوعلي عام 2001، تمكنت من بيع أرض فلاحية ، ثم قمت ببناء بيت بالسانية على أمل أن أقوم بتربية الأرانب و الدواجن العربي و غرس بعض الأعلاف ... لكن يبدو أن القدر قد أبى علي سلوك هذا النهج ، إذ تبين لي بعد جهر البئر و تنظيفه أن الماء المستخرج شديد الملوحة و لا يصلح لأي نوع من الزراعات !? فغادرت إلى ليبيا بعدما تكبدت خسائر فادحة ، ثم عدت دون الحصول على أي عمل يذكر . فعملت حارسا لمؤسسة تربوية بشط مريم ، ثم عاملا بمعمل البلاستيك بسيدي بوعلي ... ثم قررت شراء حاسوب و تكوين ناد للإعلامية الموجهة للطفل ... و بمجرد أن تناهى للسلط الأمنية نجاحي في هذا المسعى سعت بكل قوة إلى عرقلة نشاطي !?... و قد نجحوا بعدما انسحب شريكي بالمحل و صاحب بعض أجهزة "البلاي ستيشن " تحت "ضغط مؤسسة الأمن" فعملت بجوهرة الساحل مشرفا على مركز عمومي للأنترنات ، فكادوا لي مرة أخرى و أدخلوني السجن يوم 12 ماي 2004 بتهمة إصدار شيكات بدون رصيد رغم أني لا أملك حسابا بنكيا مطلقا ، و قد حكموا علي بعامين و ثمانية أشهر دون ذنب اقترفته 9.( راجع البرقية الموجهة لرئاسة الجمهورية التونسية بتاريخ 17 جويلية 2008 و قد نشرت هذه البرقية في جريدة الموقف التونسية تحت عنوان : تهم كيدية ضد مدير دار ثقافة ص 8 بتاريخ 12 سبتمبر2008 !?. )

لا أعرف بالضبط ما الذي كان يدفع بأمي إلى كسر شوكتي و تحطيم نفسيتي منذ كنت طفلا يافعا !? !? !?. أذكر أني عندما كنت في الرابعة من عمري و كان والدي لا يزال حيا ، انتهزت فرصة دخول أمي إحدى الغرف و أخذت حفنة من " البطاطا" التي كانت أمي بصدد قليها ، فكان عاقبتي "شحطة قوية " بعصا ، مما أغضب والدي العجوز!? ...
كنت كلما كبرت ازدادت أمي قسوة في معاملتي !? اصطادتني ذات يوم بمساعدة أخي الأكبر سمير ، و أخذت تنهال علي ضربا على رأسي وهي تصيح : " نحب نجننك ... نحب نجننك ... !?
كلفتني و أنا تلميذ بالابتدائي ببيع البيض المسلوق ب"ريلي القرية " للسياح و المسافرين فجرا !? كما كلفتني دون إخوتي بالوقوف الساعات الطوال أمام البلدية في انتظار السيد الطاهر – رئيس البلدية - قصد الحصول منه على مساعدات مالية لسد رمق العيش !?....
لا أزال أسائل نفسي إلى حد اليوم : لماذا كانت تكلفني أمي دون سائر إخوتي بهكذا أعمال !? و لماذا تبالغ في قسوتها معي !? كنت أتعذب و أتألم بعنف و تنكسر شوكتي إذا ما خاصمتني و قاطعتني لأتفه الأسباب . كان المحفز على كل عذاباتي مع أمي الفكر الديني الذي اعتنقته منذ طفولتي ، و الذي يصور للإنسان واجب طاعة الوالدين و الإحسان إليهما و إن ...ظلما .. و إن كفرا ... و إن مزقاك إربا ... إربا !? !? !? . لما انتقلت للتعليم الثانوي بدأت في مراجعة هكذا عقلية تصادم الفطرة ... فطرة ميل الإنسان إلى العدل و كراهية الظلم مهما كان مصدره ... فكتبت "كراسا" أكدت فيه أن طاعة الوالدين غير ملزمة للأبناء إن بان ظلمهما للأبناء و التعدي على حقوقهم ... و دللت على مذهبي بقصة نبينا إبراهيم عليه السلام الذي أعلن هو و أتباعه العداوة و البغضاء لقومهم حتى يعودوا عن كفرهم و ظلمهم .. كما أعلن عليه السلام تبرئه من أبيه آزر . هكذا استطعت أن أخفف عن نفسي حدة ما كنت أستشعره من عذابات مدمرة إثر كل خصومة معها ..3 و التي كانت لا تكف عن افتعال الخصومات لأتفه الأسباب . !? لقد أصرت عام "الباكالوريا" أن لا تتركني أجتاز الإمتحان الذي طالما انتظرته للخروج من القرية ... فتحديتها و اجتزته بنجاح رغم الصدمة العاطفية الأولى التي تسببت فيها حبيبتي رابعة .. !? و تحديتها لما أقمت علاقة وثيقة مع أختي من الأب "سالمة" و مع كل من كانت تعاديهم أمي . و حصلت على المنحة الجامعية طيلة سنوات دراستي بالمعهد العالي للتنشيط الثقافي ... كما صرت أعمل لحساب نفسي في العطل الصيفية حتى لا أحتاج إلى مساعدة أحد ... واستطعت بوسائلي الخاصة السفر إلى فرنسا في تربص ب15 يوم ، رغم ما أبداه رئيس مركز الشرطة بسيدي بوعلي السيد "فتحي" من تمنع في تمكيني من جواز السفر . كما تمنعت أمي و أختي سعاد عن إقراضي بعض المال للسفر، فاستعرت من ابنة خالتي عائشة التي كانت تطمح للزواج بي ... و هكذا كلما تلبستني مشكلة ، قيض الله لي حلا ... و بدأت تجتاحني مراجعات فكرية في كل المناحي الحياتية و كتبت فصولا مسرحية عن أصحاب الكهف ، كما كتبت عديد "الكراسات "التي تتطرق لمختلف المواضيع ، و قد أحرقت كل هذه الكراسات بفعل فاعل ، داخل البيت الذي كنت ابتنيته بالسانية ... بعد دخولي السجن في شهر ماي من عام 2004 ، كما استطعت الاحتفاظ بلوحات قصصية رسمت فيها بعض ذكرياتي بقريتي قبل التحاقي بالجامعة كان عنوانها " ذكريات زمن مضى " (راجع هذه اللوحات في مدونتي :
) Islam 3mille.blogspot.com

يوم 12 ماي 2004، استدعتني مصالح الشرطة بسوسة بدعوى الاسترشاد عن عملي الجديد بمركز عمومي للأنترنات بمدينة جوهرة سوسة ، و على إثر إتمام كل الإجابات على كل استفساراتهم وقع إيقافي بتهمة إصدار شيكات بدون رصيد ، فقمت بإعلام صاحب المركز العمومي للأنترنات السيد" رفيق" و أخي" فرج" بموضوع إيقافي .. ثم نقلت في نفس اليوم إلى المحكمة الإبتدائية بتونس ثم مباشرة إلى سجن 9 أفريل ... و بعد أخذ و رد وارتباك واستفسار ... علمت أنه محكوم علي بالسجن لمدة عامين و ثمانية أشهر و ثلاثة أيام !? !? لم أصدق ما يحصل لي في البداية واعتقدت أن هناك خطا ما و تشابه في الأسماء ... إلى حين زارني أخي سمير بالسجن و أكد لي صحة الحكم الصادر ضدي .
استدعاني السيد مدير السجن بعد أيام قليلة من إيقافي واقترح علي العمل منشطا ثقافيا بالسجن ... لكني رفضت و حاولت إقناعه ببراءتي من التهمة المنسوبة إلي و رجوته نقلي إلى سجن المسعدين بسوسة حتى يستطيع أهلي زيارتي و مساعدتي على تبرئة ساحتي من هكذا تهمة باطلة . !? فنقلت أواخر شهر جوان 2004 إلى سجن المسعدين أين تمكن إخوتي من زيارتي و تعهدوا بمساعدتي على إظهار براءتي . !?
إن إحساسي بجرم أمي بحقي و حق إخوتي كان يتعاظم يوما بعد يوم ... كانت كل أفعالها و أقوالها تبرز شخصية معقدة و مريضة ، قد اجتاحتها الأمراض المزمنة و العلل حتى لم يبق لها من فطرتها التي فطرت عليها شيئا يذكر ، فالأم تمثل في وجدان كل إنسان : الرأفة و الرحمة بأبنائها و التضحية في سبيل نموهم نموا سليما بكل غال و نفيس ، و أمي صارت تصارحني أنها تمقت أبي المتوفى منذ العام 1973 ... بل و أنها ستحطمني بكل ما أوتيت من قوة ... و قد سعت في أكثر من مناسبة إلى تحريض الشرطة و تلفيق التهم ضدي منذ كنت طالبا بل و زعمت في شهر فيفري 2010 - للحرس الوطني أنها أجبرتني على الخروج من منزل والدي بسبب أنشطتي صلب "الحركات الإسلامية " و أني حتى بعد سكني بالغابة مازال "بعض الإسلاميين" يترددون علي بالسانية !? و قد استمع لمكيدتها بعض الأغبياء !? و بحثت يوم 4 فيفري 2010 لمدة تزيد عن الأربع ساعات ثم أطلق سراحي بعد العاشرة ليلا ، و قد اتهمني أحد هؤلاء الأغبياء بأني قد أضعت وقتهم دون فائدة تذكر !?

لقد استغلت أمي صفتها أبشع استغلال ضد فلذة كبدها ... كما استغلت زياراتها لي بالسجن عام 2004 لإبداء الشماتة بي .. كما زعمت - بعد خروجي من السجن - أنها قد صرفت علي ما يربو على الألف دينار ... !? و قد أرجعت لها هذا المبلغ و زيادة في محاولة يائسة لتجنب التصادم معها.. !?
لذلك اخترت مقاطعتها إلى الأبد و التبرؤ منها أمام الله، اقتداء بتبرؤ إبراهيم عليه السلام من أبيه آزر و قومه لما تبين أنهم أعداء لله عز وجل .

بدا لي السجن غريبا عجيبا ... يظم بين جدرانه أصنافا من المتهمين و المنحرفين و المرتشين ... كل يحدثك بافتخار عن الجريمة التي ارتكبها ... !? كما يصر معظمهم على مواصلة انحرافهم و شذوذهم داخل جدران السجن ، و يتعهدون بمزيد إتقان انحرافهم و شذوذهم بعد خروجهم من السجن ... و هذا ما يجعل نسبة العود إلى السجون التونسية تفوق نسبة خمسين بالمائة ... !? وهي في ارتفاع مستمر حسب إحصاءات "السلط الرسمية" !?
بقيت أشهر عديدة لا أصدق ما يحصل لي و أني داخل جدران السجن ... و كانت أحلامي كلها تتراءى لي أني حر طليق ، أبحر عبر الشبكة العنكبوتية إلى مختلف أنحاء العالم . لقد أسعدني أن أرى ذات ليلة في حلمي ما كنت أراه في حلمي خارج أسوار السجن : وهي عثوري على جواهر ثمينة مطمورة تحت حائط و كلما نبشت التراب كنت أعثر على المزيد من هذه الجواهر الثمينة ... فبدأ يداخلني بعض الإرتياح من جديد ... كما استطعت الحصول على سرير منفرد بعدما أرشيت " الكبران " المشرف على الغرفة وهو منحرف في جعبته أكثر من جريمة و أكثر من ثمانية عشر سنة سجن . !? و قد كنت أشترك مع "قروي " سيء الأخلاق و الطباع في نفس السرير، و قد سجن بسبب السرقة . !? كان أملي كل يوم أن يأتي من يناديني للخروج من السجن بعدما كلف إخوتي (2) محاميين للدفاع عني و إثبات براءتي .
لقد شكل دخولي السجن بسبب تهمة باطلة كليا صدمة عنيفة هزت كل كياني ... كما شكل ضربة قاسية و قاسمة لظهر أصبح يستعصي على القصم ، لكثرة ما اشتدت عليه نوائب الدهر و ملماته منذ زمن بعيد .... !? بدأت استعيد عافيتي النفسية شيئا فشيئا ، و قد صار لي أصدقاء بالسجن نصلي معا و نقرأ القرآن و نتجاذب أطراف الحديث في شتى المواضيع و القضايا ... وانتخبني جمع من قدماء نزلاء السجن بالمسعدين لإمامتهم في الصلاة و قراءة القرآن ... كما استفسرت عن تهم كل الذين يساكنونني الغرفة ... و كان أقساهم عقوبة مواطن من مدينة مساكن قد أمضى أكثر من عشر سنوات في السجن بسبب تهمة الإنتماء لحركة النهضة ، قال لي أنهم عثروا في سيارته على سلاح ناري " فرد" لما قفل راجعا من فرنسا عائدا إلى تونس دون أن يكون يعلم بهذا السلاح المخفي في سيارته . !? و قد بدا لي أن مستواه العلمي ضعيف جدا على غير عادة المتهمين بالإنتماء . !? كما كان يحفظ بعض سور من القرآن بطريقة خاطئة في النطق وهو لا يكاد يبين في قراءته ... و يتاجر ببعض حاجيات المساجين ... مثل السكر... و النسكافي ... و الياغرت ...

بدأت أخوض مراجعات عميقة في حياتي ، لحياتي الفكرية السابقة في كل تفاصيلها شبيهة بمراجعات "ميخائيل نعيمة " لحياته في " اليوم الأخير " و بدأت تتكشف لي فكرة : " أن الله قد أتى بي إلى السجن رحمة منه حتى أجد " الفرصة الملائمة لإعادة تقييم حياتي بما فيها من نجاحات و إخفاقات مرة ... كما تأكد لي أن لا شيء يحدث صدفة في الحياة و إنما كل شيء بقدر خضوعا لنواميس و قوانين مسطرة من قبل الله لجميع مخلوقاته .. فلا وجود للصدفة مطلقا في حياة البشر .. و حتى دخولي السجن بتهمة باطلة يخفي حكمة إلاهية بدأت تتكشف لي معالمها يوما بعد يوم منذ إقامتي بالسجن . إن ما تعلمته و عرفته و سمعت به في بضع أشهر داخل غياهب السجن قد فاق في أهميته كل السنوات التي قضيتها خارج أسوار السجن . !?

أواخر شهر أكتوبر 2004 طلبتني الشرطة الإقتصادية بالقورجاني ، فأعادوني إلى سجن 9 أفريل مرة أخرى ، في انتظار البحث معي في القضية الملفقة ضدي . و هناك شاءت الحكمة الإلاهية أن أساكن في نفس الغرفة "ب 2" مجموعة هامة من أعضاء حركة النهضة و على رأسهم الدكتور أحمد الأبيض صاحب كتاب " من أجل حياة جنسية إنسانية و ناجحة " و قد كنت طالعت هذا الكتاب قبل التحاقي بالمعهد العالي للتنشيط الثقافي ... إنها لفرصة ثمينة أن تلتقي بأحد منظري حركة النهضة داخل أسوار السجن و التي كنت أعتبرها حركة إسلامية قد انحرفت عن طهرها و عذريتها بعد عام 1987 و قد صارت من بنات المواخير،مما قيض الله لجل أفرادها و قادتها أن يساموا سوء العذاب من قبل "النظام الحاكم" و يدخلوا السجون التونسية بسبب من انحرافهم عن نهج الرسل عليهم السلام . لذلك وجدت الفرصة سانحة للتهكم على مواقف هذه الحركة تجاه حرية المرأة ... و مجلة الأحوال الشخصية سيئة الصيت ... و التشكيك في مرجعية مواقفها ، و تبيان أن جل مواقفها المعلنة لا تمت للإسلام و لا لقوانين الله المفصلة في القرآن بصلة ... مما جعل بعض مساجين الحق العام يتبنون مواقفي في مواجهة مواقف حركة النهضة و هم لا يزالون لي أصدقاء منذ زمن .

لقد اكتشفت ذات حوار مع الدكتور الأبيض بأنه لا يؤمن بالملائكة التي يمكن أن تقاتل مع جنود "دولة التوحيد" ، نافيا بذلك نصوص قرآنية صريحة في هذا الشأن . !? لقد أكدت لي مواقف الدكتور و الزمرة التي تقيم معه من حركة النهضة أن هذه الحركة هي "حركة علمانية " في جوهرها ، لا تمت بكبير صلة في مفاهيمها و معتقداتها إلى مفاهيم الدين الإسلامي و معتقدات المؤمنين . !? إذ كيف يتنكر هؤلاء الأزلام – بدعوى العقلانية و التفتح على منجزات العصر – لحقائق الدين و ثوابته و قوانينه الأزلية و التي ذكر بها كل الأنبياء عليهم السلام في مختلف العصور و الأزمان و المثبتة في نصوص القرآن !? إن هؤلاء الأنجاس و الذين ادعوا باطلا تبنيهم للإسلام " منهج حياة " قد خربوا ديارهم بأيديهم و أيدي أنظمة الكفر لما تنكروا لثوابت القرآن و حقائقه الأزلية ... فهلكوا و أهلكوا كل من تبع نهجهم الضال عن هداية الله في القرآن . و لا يزال "هؤلاء الإخوان " الذين تحسبهم جميعا و قلوبهم شتى ، يعملون معاولهم التخريبية في جسد أمتنا تحت لافتات شتى ... شعارهم "الحصول على السلطة " مهما كان الثمن !?
ماذا فعلوا في السودان أو في فلسطين لما استطاعوا الإستيلاء على السلطة سوى مزيد تفريق الأمة و تأليب الأعداء . !?
لقد استشعر هؤلاء الإخوان عداوتي لأطروحاتهم فقاطعني جلهم خاصة بعدما صرت أؤلب على مواقفهم الضالة مساجين الحق العام . !?
يبدو أن شهر ماي قد صار يشكل في وجداني " شهر الصدمات " العنيفة التي تهز كياني هزا ... !? !? فالسيدة آمال قد اختارت شهر ماي "لتؤدبني " !? و هاأنذا أدخل السجن في نفس هذا الشهر لتأديبي على جرم لم أرتكبه !?
لقد صار الجميع يسعى لتأديبي و التنكيل بي بدءا بوالدتي وانتهاء بزوجتي و الفراعنة المتألهين ... لأن عذريتي الفكرية والسلوكية لم ترق لكل هؤلاء المنحرفين عن فطرة الله التي فطر الناس عليها .. حتى غدت عودتهم من متاهاتهم شبه مستحيلة !? و على عكس شهوة هؤلاء المنحرفين ، جعلتني صدمتي الأولى أعيش ولادة جديدة شبيهة بولادة ابنتي شيماء و التي تزامنت ولادتي الجديدة مع ولادتها ... !?
أما ولادتي الثانية ، فقد أزاحت عن بصيرتي حجبا كثيفة كانت تخفي عني حقيقة "الإخوان المسلمين " في تونس و في العالم الإسلامي، و دورهم التخريبي في كيان الأمة الإسلامية التي لا تزال تعيش في ظلمات بعضها فوق بعض ، بما يبثه هؤلاء الدراويش من فكر ظلامي ، تستحيل معه أي نهضة أو تقدم ... !?
لقد أتاح لي السجن فرصة المراجعة العميقة لكل ما اختزنته من قيم و مبادئ و مواقف فكرية على مدار سنوات طويلة ... فقد أهداني سجين من مدينة بن قردان مصحفا صغير الحجم بسبب تعذر قراءته عليه ... فوفر لي فرصة ثمينة لتجميع آيات القرآن بحسب المواضيع المطروقة .. و قد لفت انتباهي بادئا ذي بدء أن آيات الجهاد و القتال في سبيل الله كلها آيات " مدنية " أي أن الإذن للمسلمين بالقتال في سبيل الله قد جاء بعد هجرة الرسول صلى الله عليه و سلم من مكة إلى المدينة بعد أن استطاع عليه السلام بناء أول دولة في الإسلام ، و بما أن الرسول صلى الله عليه و سلم يمثل القدوة العملية لكل المسلمين في أي زمان و أي مكان في تنزيل الوحي / القرآن، فإن الخروج عن النهج الذي سلكه النبي عليه السلام، يشكل انحرافا خطيرا عن مبادئ الإسلام ... و هكذا بدأت تتشكل لي رؤية تأصيلية واضحة عن الإسلام و مفاهيمه .. و بهذه الطريقة "التجميعية " لآيات القرآن و سيرة الرسول صلى الله عليه و سلم على مدار عامين ، بدأت تنجلي لي حقيقة آيات القرآن الأزلية الثابتة و التي تشكل في آخر المطاف فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ... !?
و بدأت تتضح لي معالم الطريق شيئا فشيئا .... لقد كنت أستشعر حقائق الإسلام و سنن الله و قوانينه الأزلية في الكون و الإنسان و الحياة منذ إقامتي بمدينة حمام الأنف عام 1995 ... لكن أفكاري لم تكن مؤصلة و مدعمة بإحصاء آيات القرآن .. فقد كتبت حينذاك في صحيفة القدس العربي مقال تحت عنوان : ردا على الأفندي و عفيف الأخضر ، علمانيون و إسلاميون تراثيون حولوا الإسلام و الغرب إلى صنم يتعبدونه ... !? !? و مقال تحت عنوان : الثابت و المتغير .... و كانت كل هذه المقالات تؤشر إلى ما توصلت إليه بعد قيامي بتجميع آيات القرآن بحسب مواضيعها . كما كنت كتبت قبل دخولي السجن : الإسلام يكره الإرهاب و يجرم الإرهابيين ... (راجع كل هذه المقالات في كتابي : نقد الإستبداد الشرقي عند الكواكبي و أثر التنوير فيه + مشروع بناء حضارة بديلة الصادر عن المطبعة العصرية بتونس عام 2009 ).
بعد انتهاء فترة مراجعتي للقرآن الكريم كمصدر وحيد للتشريع في الإسلام ... و مراجعة كل أفكاري و قناعاتي أذن الله لي بالخروج من السجن أواخر شهر فيفري 2006 ، فقمت بتأليف كتاب : نحو بناء حضارة إسلامية جديدة ، شكل خلاصة مراجعاتي بالسجن طيلة عامين و قد حاولت نشره لكن باءت كل محاولاتي بالفشل خاصة بعد امتناع المكتبة الوطنية إعطائي تأشيرة النشر ، متحفظة على بعض ما ورد فيه .. !? !?
كانت حاجتي متأكدة لإعادة تجربة الزواج ... فعملت نجارا و أصلحت أثاثي القديم .. وارتبطت بسرعة فائقة بأم ابني نصير الله ، حتى أن هذا الزواج قد فاجأ أمي و إخوتي ، إذ كانت أمي قد خططت لإفشال هذه الزيجة عن طريق أختي نرجس و زوجة أخي سمير .. لكن مسارعتي إلى عقد القران على زوجتي بدون علمهم، أربك الجميع و جعل كل مساعيهم تبوء بالفشل .
هكذا هي حياتي منذ وعيت الحياة : تحديات و عقبات و مؤامرات لتحطيم كل ما أسعى لبنائه .. مما جعل ظهري عصية عن القصم .
بعد ولادة ابني نصير الله بثلاثة أشهر ، أوقفتني ا"لأجهزة الأمنية للحرس الوطني" بفوشانة من ولاية بن عروس يوم 1 أفريل 2008 بسبب إحداثي لمدونة في الأنترنات تحت عنوان :
Islam3000.blogspot.com

و يبدو أن النداءات الثلاث التي وجهتها للشعب التونسي و للمرأة التونسية و لخطباء المساجد ... و التي بلورت فيها مفاهيم لبعث "دولة التوحيد في تونس" ... قد هزت أركان الحكم هزا عنيفا بسبب وضوح الرؤية و صوابها و تجاوزها لكل أطروحات الإسلاميين و القوميين و اللائكيين عموما ...
(راجع هذه النداءات في مدونتي :
) daawatalhak.blogspot.com (
مما جعل جنود فرعون يسعون جاهدين طيلة أسبوعين عن طريق التعذيب و التعليق عاريا و الصفع و حرماني من النوم لأن أقر بارتباطي بجهات أجنبية تحرضني على افتكاك السلطة في تونس !? !?! و لما فشلوا في مسعاهم الباطل لفقوا لي تهمة : مسك منشورات من شأنها تعكير صفو النظام العام ، !? !?!
فحوكمت على إثرها بثلاثة أشهر سجن قضيتها بين سجن المرناقية و صواف بزغوان ... دون اعتبار2 أسبوعي التعذيب !? !?!.
و قد وجهت إثر خروجي من السجن برقية إلى رئيس الجمهورية أناشده فيها الاقتصاص من الظلمة و الكف عن تلفيق التهم الباطلة ضدي و الخضوع للقانون مثل سائر مكونات المجتمع (راجع نص البرقية في جريدة الموقف ليوم 12 سبتمبر 2008 تحت عنوان ، تهم كيدية ضد مدير دار ثقافة ). ) .. !? !?!
لكن لا حياة لمن تنادي، فالطغاة لا يمكن أن يعترفوا بجرائمهم في حق شعوبهم ، فهمهم الأول ، تسخير البلاد و العباد لمصالحهم و مصالح كهنتهم و سحرتهم من رجال الدين و البهتان و كلاب حراستهم الذين كان يفترض أن يسهروا على راحة المواطن و حماية الوطن من الأعداء
. راجع كتابي : نقد الإستبداد الشرقي عند الكواكبي و أثر التنوير فيه + مشروع بناء حضارة بديلة الصادر عن المطبعة العصرية بتونس عام 2009 ).

قبل إيقافي يوم 1 أفريل 2008 و إيداعي السجن حتى يوم 11 جويلية من نفس السنة ، كان الله قد هيأ لي كل الظروف الملائمة لإنضاج كل أفكاري التي كنت بدأت التوصل إليها عندما أدخلت السجن في المرة الأولى و التي كنت قد بلورتها في كتاب بعنوان :" نحو بناء حضارة إسلامية جديدة" و الذي ضمنت جميع مقالاته مدونتي :
Islam3000.blogspot.com ((و قد حجبت السلطات هذا الموقع مباشرة بعد أن نشرت فيه البرقية الموجهة لرئيس الجمهورية بتاريخ 17 جويلية 2008)
بعدما كانت السلطات الثقافية قد رفضت نشره !? !

إن نشر كل أفكاري مجمعة في مدونة بعدما أضفت إليها نداءاتي للشعب التونسي بدت للسلطة و كأنها صادرة عن زعيم حزب سياسي عالمي !? ! هذا ما صرح لي به أحد الضباط !?!
لقد كلفت بالإشراف على معمل البطريات الكائن بسبالة الشيخ من معتمدية المحمدية ... و هذا المعمل يقع في منطقة فلاحية نائية عن العمران ... و لم يفلح صاحب المعمل المغلق بسبب الإفلاس في فتحه رغم كل المحاولات .. كان المعمل فسيحا ... به مساحات فلاحية هامة فانتهزت الفرصة لزراعة بعض البقول و الإعتناء بها و تربية الدواجن ... و صرت أقضي كامل اليوم مطالعا للصحف و المجلات و الكتب ... و مفكرا في مسائل الكون و الإنسان و الحياة ... و قد جسدت كل تأملاتي في مقالات أحسست أنها هزت لأول مرة أركان الحكم و الذي طالما اتهم المعارضة بعدم امتلاكها لبرنامج !?! و هذا ما جعل مستجوبي يتوهمون أني بصدد تقديم برنامج سياسي /حضاري للإستيلاء على السلطة بل و يصرون أني بصدد "تحريض" الشعب على الثورة .. !?!
و قد كرروا على مسمعي كل هذه الاتهامات سواء خلال إيقافي بمركز فوشانة للحرس الوطني أو بقاعدة العوينة أو بوزارة الداخلية ... !?!

كنت قد نشرت 2 مقطعين من النداء الذي وجهته للشعب التونسي أناشده فيه تبني سنن القرآن و قوانينه العادلة في تنظيم مجتمعنا التونسي ، عوضا عن القوانين الوضعية الظالمة التي يحبرها المتألهون من قومنا ، و التي حولت أكثر من أربعين في المائة من الرجال التونسيين إلى عاجزين جنسيا ... كما استشرت الأمراض المزمنة بمجتمعنا كأمراض السكري و الدم الغليظ و السيدا و الفقر و البطالة و فقدان المرأة لأنوثتها ... كما لفت انتباه الشعب إلى ما تبثه إذاعة" الزيتونة للقرآن الكريم " من سموم و ترويج لفكر الدراويش و بيع صكوك الغفران ... قصد تخدير الشعب و الهيمنة على مقدراته باسم الدين . !?!

و عدت يوم 1 أفريل 2008 إلى المركز العمومي للأنترنات بفوشانة لكتابة المقطع الثالث ، و كنت بصدد كتابة السطر الأول من الخطاب لما اقتحم علي المركز ثلاثة رجال بلباس مدني و طلبوا مني مدهم ببطاقة التعريف الوطنية ... و اقتادوني إلى سيارتهم الرابضة أمام مركز الأنترنات في مشهد بوليسي رهيب كمن يقبض على مجرم خطير !?!
في الحقيقة كنت أتوقع أن يقع استدعائي بطريقة حضارية للاستفسار عن بعض الأفكار التي صرحت بها ، خاصة و أن الحكم قد أعلن أن سنة 2008 هي سنة الاستشارة الشبابية عن مستقبل البلاد ، بالإضافة إلى كوني قد بدأت في نشر أفكاري تزامنا مع عيدي الإستقلال و الشباب .. كما أني معروف بمعارضتي السلمية للنظام و لمختلف الأحزاب الإسلامية و العلمانية التي تعج بها دولنا العربية ذات الأنظمة الإستبدادية !?! بل و حرصت أن أبعث بهذه المقالات إلى كل الصحف و الإذاعات الوطنية و لم يسعفني الحظ لبعثها لرئاسة الجمهورية ... رغم حرصي لفعل ذلك . فاعتقدي راسخ أن أفكاري و قناعاتي تنسجم مع كل الإرادات الخيرة في مجتمعاتنا الإسلامية ... و ليس لي ما أخفيه مطلقا .
أخذني قائد فرقة مقاومة الإجرام !?!هكذا ! بصحبة بعض الجنود المغاوير ، مكتف اليدين ، إلى مقر إقامتي بسبالة الشيخ ، واقتحموا بيت نومي و أخذوا كل الوثائق التي وجدوها و لم تسلم منهم حتى شهاداتي العلمية ... و لا يزال جواز سفري محجوزا رغم حصولي على حكم منذ 19 نوفمبر2009 يقضي بإلغاء قرار وزير الداخلية و التنمية المحلية بحجز جواز سفري ... إنها دولة القانون و المؤسسات !?! و قاموا ببحثي في مكتب قائد الفرقة السيد " وسام " و قد تشبثوا بأن هناك من يكتب لي المقالات و يحرضني ضد الدولة .. !?!
ثم استأذن السيد وسام " من أعلى سلطة في الدولة كما جاء على لسانه" لتعذيبي و التنكيل بي صفعا و تعليقا و ضربا بالفلقة ذات المسامير الحادة ، حتى دميت قدماي من شدة الضرب و لم تعد تقدران على حملي !?! و كان الهدف من التعذيب أن أعترف على من يحرضني على كتابة المقالات ... !?! أو على الأقل ذكر اسم واحد قد اعتنق الأفكار التي أروجها في الأنترنات !?!و هددني باغتصاب زوجتي أمامي إن أنا أصررت على الإنكار !?! عجبت من هكذا اتهامات لأستاذ يكتب في الصحف الوطنية و العالمية منذ ما يربو عن العشرين سنة !?! في دولة يزعمون أنها دولة القانون و المؤسسات .. و في فترة حساسة يطالبون فيها الشعب بإبداء رأيه فيما يخص مستقبل تونس و حاضرها !?!
كما يعلنون ليل نهار تقديسهم لحرية التعبير و تحريم التعذيب تحت أي مبرر !?!
بعد أن أوقفوا علي التعذيب شعرت أنهم بدؤوا يقتنعون أن كل ما حبرته كان من بنات أفكاري... لكنهم كانوا مصرين على دفني في السجن بتهمة تكوين عصابة أو ما شابه !?!هكذا صارت الأجهزة الأمنية في ديارنا !?! عوض حماية أمن المواطن و تشجيعه على الفكر و الإبداع و إعمال العقل ... صاروا يحاولون دفن كل من امتلك ناصية الفكر و النقد و الإبداع !?! قال لي احد الضباط المتقدمين في السن : هل تحسب نفسك زعيما !?! ماذا يكون موقف الدول الأجنبية عندما تستمع لكلامك !?! ملمحا لما ورد في خطابي من أن يتهيأ التونسيون لقيادة العالم إذا ما استطاعوا إقامة " دولة التوحيد " التي تحتكم إلى شرع الله في كل صغيرة و كبيرة . كل ما صار يهم القوى النافذة في أمتنا ، موقف الغرب و رضاه عنا و لو كان ذلك على حساب تخلينا عن مصدر قوتنا و وحدتنا و ازدهارنا .. !?! هذا ما كنت قد ألمحت إليه منذ سنوات خلت في مقالات نشرتها في جريدة القدس العربي . !?! راجع هذه المقالات في مدونتي :
Islam3mille.blogspot.com
لا أعرف بالضبط ما الذي جعلني استحضر محمدا لما كنت راجعا من العرض المسرحي الذي أقامته ثلة من الشباب ،كان العرض قد تناول صراع " الذات " مع " الآخر "و كيف أن الإنسان بحاجة أكيدة إلى تحديد هويته ، في الحقيقة كان عرضا مملا ، إذ كثر فيه الصخب ، و ردد الممثلون الكثير من الشعارات ، الرنانة التي سئمت سماعها .. خاصة أنها لم تواكب بإبداع فني !؟
" كنت قد اجتمعت مع محمد في مجلس حضرته نخبة من الشباب ، و كان معنا المنذر الذي عاد لتوه من فرنسا لمواصلة تعليمه الجامعي ، بعدما قضى بها أربع سنوات يدرس علم الإقتصاد . و كان المنذر" يزين لنا الحياة في الغرب حتى نعرف الحياة الحقيقية من حياة التفاهة و التعاسة " على حد تعبيره !؟
و قال وهو يهز رأسه في زهو و عجب :
- " إن الحياة هناك ممتعة و لذيذة ، هناك يا أصدقاء يعرف المرء معنى تدفق الحياة ، حياة التحضر و العقلية المستنيرة ..لا حياة الجمود و التوحش و الإبتذال !؟ فقال محمد محتجا :
- " و لمن نترك هذا الشعب المسكين " أيها المنذر !؟ ثم استطرد قائلا :
- " الأولى بنا يا أصدقاء أن نفكر في بناء حضارة أرقى من الحضارة الغربية التي تبهرنا .. و حدج محمد المنذر بنظرة حادة : - " ماذا ينقصنا حتى نعول على أنفسنا ، ثروات طائلة و سواعد تنتظر البناء و التشييد !؟ فقال المنذر و قد افتر ثغره عن ابتسامة ظفر و وارتياح ،
- تريدنا يا محمد أن ننتظر حتى تقام حضارتنا الموهومة ، " ترقب يا دجاجة حتى يأتيك القمح من باجة " و سكت المنذر و حدج الحاضرين بنظرة انتصار ثم نظر إلى محمد نظرة تهكم و استفزاز و قال و عيناه تتقدان سرورا ، :
- " دعونا يا جماعة نشارك القوم متعهم و نكرع من الحياة كما يكرعون .. و نسلك طريقهم حتى نكون لهم أندادا ، أما محمد فيدعوكم إلى الوهم و إضاعة أعماركم في ترقب أمل زائف ".
كان الحاضرون يترقبون أن يرد محمد على هذا التهكم بشدة لكن محمد استمع إلى المنذر بانتباه شديد ، و صمت قليلا حتى سكت الغضب و الإنفعال عن المنذر و قال بأدب جم :
- " أصدقائي ، لا تغرنكم كلمات المنذر ، و لا تنسوا أنكم قلب الأمة النابض ، المنذر يدعوكم إلى التخلي عن مسؤولياتكم تجاه أمتكم التي تنتظر منكم خيرا كثيرا . المرء بطبعه يبحث عن السهولة .. و اليسر و يخشى التعب و تحمل المسؤوليات " .
و التفت إلى المنذر و ربت على كتفه و قال موجها له حديثه :
- " من حقك أيها الصديق أن تذهب إلى هناك و تنعم بحياتك دون أية منغصات .. فنحن لسنا بحاجة لإلى أمثالك ، فأمثالك لا يرجى منهم خير أبدا " .
و تمتم المنذر في ارتباك وهو لا يدري ماذا يقول :
- " ماذا تقول يا محمد !؟ أو تظن نفسك زعيم هذه الأمة !؟ و من حملك مسؤولية النهوض بها !؟
ثم قام وهو يهز كتفه مغيظا محنقا :
- " كلكم قد نصبتم أنفسكم زعماء لهذه الأمة ، كلكم تزعمون أنكم ستنهضون الأمة من كبوتها .. !؟ لكن أين الفعل ؟؟ نريد الفعل يا ناس ؟؟ نريد الفعل ... لقد سئمنا كثرة أحاديثكم ، ورثتم عن العرب القدامى زخرف القول و قلة الفعل ، لم ترثوا عن سوق عكاظ إلا الأحاديث المنمقة " . و صاح بأعلى صوته :
- " نريد الفعل ... نريد الفعل ...".
و حرك محمد رأسه موافقا و قال :
- " الآن نستطيع أن نتحاور ، و نتفاهم ، نريد الفعل ، معك كل الحق في هذا القول !" .
و هتف محمد من الأعماق و قال :
- " إن انبهارنا بالغرب سلب منا كل قدرة على الفعل .. إن تقليدنا للنمط الغربي في الحياة قد مسخ شخصيتنا حتى أضحينا عاجزين عن الفعل و الإبداع ... إن التقليد يا إخوتي قد أعشى أبصارنا على ما يحمد من حضارة الغرب . حالنا يا جماعة حال الذي يريد أن ينجو من الغرق و ما هو بناج ، ثم قال بصوت ينبعث من أعماق فؤاده :
- ليتنا أدركنا منذ البداية أن الحضارة : تواصل و إبداع ... الإنبهار جعلنا نهتم بالتفاهات دون إدراك الحقائق في التاريخ .. ثم سكت محمد و استجمع قوته و قال في حزم و صراحة .. :
- " الغرب ! ذاك الذي يبهرنا بإنجازاته وابتكاراته .. ألا تساءلنا كيف بنى قوته ؟ لقد خضع في مسيرته إلى قاعدة : التواصل و الإبداع ، التواصل يظهر فيما قام به فلاسفة الأنوار من مجهودات جبارة في إحياء ما خلفه أجدادهم مثل سقراط و أفلاطون .. و أرسطو .. ثم نقلوا ما أبدعه علماء المسلمين و فلاسفتهم في شتى الميادين . لقد نقلوا علوم المسلمين و معارفهم دون أن ينقلوا أخلاقهم و تشريعاتهم .. بل شوهوها تشويها مغرضا و حطوا متعمدين من قيمتها "
تململ محمد قليلا و جعل ينقل طرفه بين الكتب المتراصة في الخزانة ثم استلم كتابا و تصفح أوراقه ، كان الجميع يرمقونه بأعين متسائلة ، و تنهد محمد و حدج الجميع بعين فاحصة و قال :
- " اسمعوا ما يقوله " فولتير" : " إن محمدا ولد أميرا واستدعي لتسلم مقاليد الأمور عن طريق الناس له ... و لو أنه وضع قوانين سليمة ، و دافع عن بلاده ، لكان من الممكن احترامه و تبجيله ، و لكن عندما يقوم راعي إبل بثورة ، و يزعم أنه كلم جبريل و أنه تلقى هذا الكتاب غير المفهوم الذي تطالع في كل صفحة منه خرقا للتفكير المتزن : حيث يقتل الرجال و يخطف النساء لحملهم على الإيمان بهذا الكتاب ، مثل هذا السلوك لا يمكن أن يدافع عنه إنسان لم تكن الخرافات قد خنقت فيه نور الطبيعة ... "
نظر محمد إلى الوجوه المقطبة الممتلئة حنقا و كأنها تتأهب للإنقضاض على عدو مقيت فشجعه ذلك على مواصلة الحديث فقال بصوت كالزئير و قد تناثر ريقه :
- "كلهم سعوا إلى ذلك متعمدين .. :
- " محمد لم يستطع فهم النصرانية ... و لذلك لم يكن في خياله منها إلا صور مشوهة بنى عليها دينه الذي جاء به للعرب ، هذا ما قاله "أديسون" .
و وجدت نفسي أسائل محمدا: " و لماذا قاموا بهذا التشويه ؟"
فسدد محمد نحوي نظرة ذات معنى و قال :
- " لأنهم يدركون بالبداهة أن مجتمعهم إذا انبهر بقيم مجتمع آخر ، يفقد ثقته بتقاليده و قيمه ، فيتلاشى بذلك الإنسجام الداخلي للمجتمع و يفقد بذلك القدرة على النهوض و بناء الحضارة ...
و سمعنا صياحا و عويلا .. تبعه طرق قوي على باب المجلس ، فخيم الصمت و التساؤل على وجوه الحاضرين ، و ملأتنا الرهبة ، فأسرع رضا و فتح الباب و حملق في القادم و قال بصوت مرتجف :
- " هو أنت يا خالد !؟ ماذا تريد!؟ ماذا حدث !؟
فتمتم خالد بصوت خفيض، مهموس:
- " توفي الشيخ الذهبي، صدمته سيارة هذا المساء ... ! و حمل إلى المستشفى .. غير أنه فارق الحياة !؟ نعم فارق الحياة على أبشع صورة يمكن تخيلها !؟
و عم اللغو في المجلس ثم سمعنا محمدا يقول بصوت لا يخلو من رنة الأسف: " رحمة الله عليك يا عم الذهبي .. لقد كانت حياتك عظة .. و كذلك موتك .. !؟ " ثم خرج كل من كان في المجلس و افترقنا .
نقلت في ثالث يوم من إيقافي بمركز الحرس الوطني بفوشانة إلى مقر المخابرات التونسية بالعوينة ... فوجدت جمعا غفيرا من الموقوفين ... يجلسون على كراسي منفردة في نظام ، و قد قيدت أيديهم إلى الخلف و صوبت أبصارهم إلى الحائط ... و قد علمت فيما بعد أنهم ينتمون جميعا إلى "حزب التحرير الإسلامي" الذي ينادي منذ خمسينات القرن الماضي بإقامة خلافة إسلامية ... و قد مات زعيم هذا الحزب و باعثه منذ زمن بعيد و لم يحقق شيئا يذكر !?! سوى تركه لمؤلفات عديدة لعل أبرزها كتاب "الفكر "و كتاب " مقدمة الدستور " و كتاب "النظام الإقتصادي في الإسلام " ... لقد مات المقدسي تقي الدين النبهاني مخلفا وراءه تركة ثقيلة من المفاهيم و الأفكار التي ساهمت بقسطها في تكلس فكر المسلمين و جعلهم يعيشون خارج الإطار الزماني و المكاني لحياتهم ... فازدادوا تخلفا و تفرقا و ضعفا إلى ضعفهم و عجزا تاما عن مواجهة مشكلات حياتهم السياسية و الإقصادية و الإجتماعية ... مما حول كل بلادهم إلى فيء منتهب من قبل قوى الإستعمار العالمي حتى أضحت أعراضهم تداس في أسواق النخاسة !?!
لقد جنى على كل هؤلاء الموقوفين من الشباب فتى في العشرين من عمره رأيته مرارا يستجدي بقايا السجائر من "الأعوان" لأن حزب التحرير يعتبر الدخان من" الطيبات التي أحلها الله لعباده المتقين " !?! و قد تعامى منظرو هذا الحزب أن الدخان يساهم بقسطه في "تغيير خلق الله" في ملامح الإنسان ... !?! و الفتك بحياة الملايين من البشر كل عام ، مما يجعله من المحرمات قطعا... !?!
هكذا جاءت بي القدرة الإلاهية لأقف وجها لوجه مع أفراد الحزب الذي سبق أن أوقفني الأمن عام 1990 بتهمة الانتساب إليه !?!
أقعدوني بجانب العم مصطفى الذي يبدو أنه قد تخطى الستين من عمره ، و قد قيل لي أنه قائد كل الشباب الموقوفين و رئيسهم في تلقينهم أفكار حزب التحرير ... كان الوحيد الذي لم تقيد يداه إلى الخلف احتراما لسنه على ما يبدو ... حدثته عن سبب إيقافي فتنبأ لي بإطلاق سراحي .. وهو ما كنت أظنه في البدء .. !?!
لقد بدأت الصورة تتضح لي الآن ... لا يزال "الأمن " يعتقد بعد مضي ما يقرب من عشرين سنة من إيقافي عام 1990، أن لي ارتباطات بحزب التحرير !?! و يسعى جاهدا لإلصاق تهمة الإنتماء إلى حزب غير مرخص فيه ... رغم أني كنت أطلق على قيادات "النهضة" و " حزب التحرير " / الدراويش/ نظرا لأنهم لا يزالون ينظرون بمنظار التراث إلى مشكلات العصر الحديث .. وهو لعمري قد حكم عليهم بالعمى الأبدي و بأن يعيشوا خارج مجريات التاريخ المعاصر و أفقدهم أي قدرة على الفعل !?!
إن الموت أهون علي من الانتساب إلى هكذا عميان البصر و البصيرة !?!

بدأ قائد الفرقة بلباس مدني بحثي مساءا بمعية ضابط ، طويل القامة ، يرتدي البزة العسكرية ، و بعض الأعوان الذين كانوا يحرسون الموقوفين ... خاطبني قائدهم بتهكم حين أدخلوني عليه :
- اجلس على هذا الكرسي !?! ملمحا إلى كوني أسعى وراء الكراسي في نشري لأفكاري على الشبكة العنكبوتية ! فكان ردي : رفض الجلوس .
بدا على كل الحاضرين الإنصات و الإهتمام بمختلف الشروحات التي أقوم بها في توضيح الأفكار التي أروجها ... و خاصة الفكرة التي تقول بوحدة الشرائع السماوية منذ خلق آدم .. و بالتالي لا وجود مطلقا لتشريع نبوي يدعيه المسلمون منذ وفاته عليه السلام ، مما فرقهم إلى فرق و أحزاب متناحرة ، متقاتلة !?! و تلوت عليهم : شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا ... الآية 13 من سورة الشورى . و رأيت أن كلام الله / القرآن تحديدا/ هو كلام مطلق أزلي صالح لكل زمان و مكان ... بينما كلام الرسل عليهم السلام ، هو كلام نسبي يصدره قائلوه ارتكازا على أوامر الله و نواهيه و وحيه، في ارتباط وثيق بأتباعهم و أطر أزمنتهم و أمكنتهم التي يحيون ضمنها . إن كلام البشر مهما كانت مقاماتهم، هو كلام نسبي، محدود الفاعلية ، و يفقد هذا الكلام فاعليته و صلاحيته و تأثيره في الواقع مع مرور الزمان و تغير الأمكنة ... إن هذه الفكرة / الركيزة في كل ما أحبره من مقالات ، تقوض الأسس الفكرية للدويلات "الإسلامية " القائمة لأنها دويلات تتنكر كلها للثوابت القرآنية - التي تكفر كل الجموع / المؤسسات التي لا تحتكم إلى شرع الله و قوانينه المفصلة في القرآن – و تعتمد على مذاهب بشرية ، قد مات أصحابها منذ قرون خلت ، و صارت مذاهبهم تعتمد كأديان بديلة عن دين الله و شرعه البين .. !?! وهو نفس المنزلق الذي وقع فيه اليهود و المسيحيون من قبلنا حتى استحقوا لعنة الله " اتخذوا أحبارهم و رهبانهم أربابا من دون الله و المسيح ابن مريم و ما أمروا إلا ليعبدوا إلاها واحدا لا إلاه إلا هو سبحانه و تعالى عما يشركون ." !?!
هكذا قد كشفت في أطروحاتي عن المفارقة العجيبة التي صار يحياها المسلمون منذ وفاة رسولهم عليه السلام . فقد ألهوا نبيهم و أئمتهم و صارت أقوالهم و أحاديثهم واجتهاداتهم أولى بالإتباع في تحديد معايير الخطأ و الصواب من آيات الله المفصلات و التي لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها تنزيل من حكيم حميد !?!
لقد اتخذ المسلمون القرآن مهجورا و تشبثوا شكليا بأحاديث الرسول النسبية - صلى الله عليه و سلم - و التي كان منطلقها و أسها ما يتنزل عليه من وحي معجز للجن و الإنس !?! لقد كان الرسول صلى الله عليه و سلم يجتهد أيما اجتهاد في التشبث بالوحي و الإستجابة لكل أوامر الله و نواهيه ، و لم يسلم عليه السلام من لوم الله و تأنيبه في عدة مواضع من القرآن .. لأن : "كل بني آدم خطاء "على رأي الرسول الكريم ، عليه السلام .
إن الصراط المستقيم الذي خطه الله لعباده المؤمنين / الصالحين لا يتأتى للإنسان السير فيه إلا بإرادة الله و مشيئته و رحمته و اختياره ، لذلك لا نعجب إذا وجدنا أن الأب و الابن و الأم وابنها و الأخ و أخيه و الجار و جاره ... الذين يتعايشون في نفس الزمان و المكان قد اختار كل منهم طريقا مختلفا عن الآخر ... فنوح عليه السلام قد اختار طريقا تختلف عن الطريق التي سلكها ابنه و زوجه .. و كذلك فعل إبراهيم عليه السلام و أبوه و قومه ... و لوط و قومه و فرعون و زوجه ... !?!
فنور الله لا يهدى لعاص لقوانين الله و فطرته و عدالته المطلقة في الحياة ... و لذلك ما كان لأحد عنده من نعمة تجزى إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى ...
لقد بان عوار "الحركات الإسلامية " المتشبثة بمظاهر الإسلام الشكلية يكشف للعيان، لأن الله عليم بنوايا هؤلاء الذين لا يرتدعون عن ركوب موجة " الديمقراطية "للاستحواذ على السلطة ، مدبرين عن سنن الله و قوانينه الأزلية في مختلف مناحي الحياة ، بدعوى الإجتهاد و مواكبة العصر !?!
تواصل البحث معي بقاعدة العوينة و حرماني من النوم ليلا و أنا جالس على كرسي خشبي و يداي مقيدتان إلى الخلف .. !?! و في محاولة أخيرة يائسة جلبوا لي العم "مصطفى " شيخ حزب التحرير ، و وضعونا وجها لوجه فيما يخص" سنة الرسول " صلى الله عليه و سلم ... و خلاصة ما واجهت به العم مصطفى قولي له : " لو كان الرسول صلى الله عليه و سلم ، مصدر تشريع في الإسلام لما كان كل الرسل عليهم السلام يشتركون في تذكير أقوامهم بنفس الشريعة التي شرعها الله لعباده المؤمنين منذ نوح عليه السلام ... و تلوت عليه الآية 13 من سورة الشورى : " شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا ..." فلما صمت العم مصطفى و عجز عن الرد ، إذا بقائد الفرقة يقوم من مكانه و يتجه صوب العم مصطفى ، مقبلا جبهته و يقول :
- " أنت رحمة أمام هذا السيد !?! " فغلبوا وانقلبوا خاسرين .
و وجه لي الضابط الطويل الذي يلبس البزة العسكرية كلامه بتهكم :
- "هل أنت مستعد للترشح للانتخابات الرئاسية القادمة ؟ مضيفا أنا مستعد لتزكيتك ! فأجبته بتهكم مماثل :
- ليس هناك ما يمنعني من الترشح في الدستور التونسي !?!
و في نهاية الأسبوع ، عشية يوم السبت 5 أفريل 2008 نقلت مع شباب حزب التحرير إلى وزارة الداخلية أين تواصل بحثي ، و قد اتهمني أحدهم بالجنون ، خاصة بعدما أكدت لهم أن العجز الجنسي و الأمراض المزمنة التي يعاني منها التونسيون هي وليدة خضوع شعبنا للقوانين الوضعية الظالمة التي يسنها متألهون من قومنا ، و قد أعرضوا عن قوانين الله الفطرية في القرآن ، مما جعل الجميع يعيش ظنك العيش ، و قد وعدتهم أن أكون لسلطتهم" بوقا "إن استجابوا لقوانين الله في القرآن ... كما سألوا بعض شباب حزب التحرير : " إن كانوا يعرفونني أم لا ؟ " ثم نقلت إلى مقر الشرطة العدلية بالقورجاني و التي سبق أن بحثت بها فيما يخص تهمة إصدار شيكات بدون رصيد الملفقة . و من ثم إلى سجن الإيقاف ببوشوشة ، ثم إلى سجن المرناقية ، و في 5 ماي 2008 حوكمت بثلاثة أشهر سجن من قبل السيد فوزي الجبالي ، دون أن أقوم بمطلب الاستئناف فنقلت إلى سجن صواف بزغوان أين أمضيت المدة المتبقية لي بعدما أنقصوا 2 أسبوعي البحث احتراما "لدولة القانون و المؤسسات" !?!
إني قادم إليك يا محمد ... لقد جعلت حياتي جحيما لا يطاق .. إني أكاد أهلك ... سأبحث عنك في كل مكان .. إلى أن أجدك .. كانت بي رغبة جامحة لملاقاة محمد !؟ و سألت عنه فقيل لي إنه هناك ... و ذهبت إلى هناك ... و فجأة وجدتني مع محمد وجها لوجه ... كان قد انتحى له ركنا ... بإحدى الحانات الكبيرة ... كانت يداه ترتعشان ... وهو يأخذ الكأس ليفرغها في جوفه .. !؟ لما رأيت محمدا على هذه الحال ... أحسست كأن شيئا ينهار داخلي ... !؟ فصحت بأعلى صوتي : " .... سأقتلك يا محمد... أنت لم تعد تصلح للحياة ... أنت لم تعد تصلح للحياة ...أنت لم تعد تصلح للحياة ... !؟
واستيقظت مذعورا .. و جاءت أمي مهرولة وهي تقول :
- " مالك يا بني !؟
فقلت لها :
- " أمي ... أرجوك أن تحضري لي بقجتي غدا صباحا ... لأني سألتحق بصديقي محمد ... بالعاصمة، إن الحياة هنا لم تعد تطاق .. و لن أحتملها بعد اليوم .. !؟

Aucun commentaire: